*سورة
النساء
إحدى السور المدنية الطويلة، وهي سورة مليئة بالأحكام الشرعية، التي تنظم الشؤون
الداخلية والخارجية للمسلمين، وهي تُعنى بجانب التشريع كما هو الحال في السور
المدنية، وقد تحدثت السورة الكريمة عن أمور هامة تتعلق بالمرأة، والبيت، والأسرة،
والدولة، والمجتمع، ولكنَّ معظم الأحكام التي وردت فيها كانت تبحث حول موضوع النساء
ولهذا سميت " سورة النساء"
تحدثت
السورة الكريمة عن حقوق النساء والأيتام- وبخاصة اليتيمات- في حجور الأولياء
والأوصياء، فقررت حقوقهن في الميراث والكسب والزواج، واستنقذتهن عن عسف الجاهلية
وتقاليدها الظالمة المهنية.
*وتعرضت
لموضوع المرأة فصانت كرامتها، وحفظت كيانها، ودعت إلى إنصافها بإعطائها حقوقها التي
فرضها الله تعالى لها كالمهر،والميراث، وإحسان العشرة.
*كما
تعرضت بالتفصيل إلى ((أحكام المواريث)) على الوجه الدقيق العادل، الذي يكفل العدالة
ويحقق المساواة، وتحدثت عن المحرمات من النساء ((بالنسب، والرضاع،
والمصاهرة)).
*وتناولت
السورة الكريمة تنظيم العلاقات الزوجية وبينت أنها ليست علاقة جسد وإنما علاقة
إنسانية، وأن المهر ليس أجراً ولا ثمناً، إنما هو عطاء يوثق المحبة، ويديم العشرة،
ويربط القلوب.
*ثم
تناولت حق الزوج على الزوجة، وحق الزوجة على زوجها، وأرشدت إلى الخطوات التي ينبغي
أن يسلكها الرجل لإصلاح الحياة الزوجية، عندما يبدأ الشقاق والخلاف بين الزوجين،
وبيّنت معنى (( قوامة الرجل)) وأنها ليست قوامة استعباد وتسخير، وإنما هي قوامة
نصحٍ وتأديب كالتي تكون بين الراعي والرعية.
*ثم
انتقلت من دائرة الأسرة إلى ((دائرة المجتمع)) فأمرت بالإحسان في كل شيء، وبيّنت أن
أساس الإحسان التكافل والتراحم، والتناصح والتسامح، والأمانة والعدل، حتى يكون
المجتمع راسخ البنيان قوي الأركان.
*ومن
الإصلاح الداخلي انتقلت الآيات إلى الاستعداد للأمن الخارجي الذي يحفظ على الأمة
استقرارها وهدوءها، فأمرت بأخذ العدّة لمكافحة الأعداء.
*ثم
وضعت بعض قواعد المعاملات الدولية بين المسلمين والدول الأخرى المحايدة أو
المعادية.
*واستتبع
الأمر بالجهاد حملة ضخمة على المنافقين، فهم نابتة السوء وجرثومة الشر التي ينبغي
الحذر منها، وقد تحدثت السورة الكريمة عن مكايدهم وخطرهم.
*كما
نبهت إلى خطر أهل الكتاب وبخاصة اليهود وموقفهم من رسل الله
الكرام.
*ثم
ختمت السورة الكريمة ببيان ضلالات النصارى في أمر المسيح عيسى بن مريم حيث غالوا
فيه حتى عبدوه ثم صلبوه مع اعتقادهم بألوهيته، واخترعوا فكرة التثليث فأصبحوا
كالمشركين الوثنيّين، وقد دعتهم الآيات إلى الرجوع عن تلك الضلالات إلى العقيدة
السمحة الصافية((عقيدة التوحيد)) وصدق الله حيث يقول: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ
انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ
وَاحِدٌ}.
التسمية:
سميت "سورة النساء" لكثرة ما ورد فيه من أحكام التي تتعلق بهن، بدرجة لم
توجد في غيرها من السور ولذلك أُطلق عليها (( سورة النساء الكبرى)) في مقابلة
((سورة النساء الصغرى)) التي عرفت في القرآن بسورة الطلاق.
افتتح
الله جل ثناؤه سورة النساء بخطاب الناس جميعاً ودعوتهم إِلى عبادة الله وحده
لا شريك له، منبهاً لهم على قدرته ووحدانيته فقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي خافوا الله
الذي أنشأكم من أصلٍ واحد وهو نفس أبيكم آدم {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}
أي أوجد من تلك النفس الواحدة زوجها وهي حواء {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً
كَثِيرًا وَنِسَاءً} أي نشر وفرّق من آدم وحواء خلائق كثيرين ذكوراً وإِناثاً
.
{وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}
أي خافوا الله الذي يناشد بعضكم بعضاً به حيث يقول: أسألك بالله، وأنشدك بالله،
واتقوا الأرحام أن تقطعوها {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} أي
حفيظاً مطلعاً على جميع أحوالكم وأعمالكم، وقد أكد تعالى الأمر بتقوى الله في
موطنين: في أول الآية، وفي آخرها ليشير إِلى عظم حق الله على عباده، كما قرن تعالى
بين التقوى وصلة الرحم ليدل على أهمية هذه الرابطة الإِنسانية، فالناس جميعاً من
أصل واحد، وهم إِخوة في الإِنسانية والنسب، ولو أدرك الناس هذا لعاشوافي سعادة
وأمان، ولما كانت هناك حروب طاحنة مدمرة تلتهب الأخضر واليابس، وتقضي على الكهل
والوليد.
ثم
ذكر تعالى اليتامى فأوصى بهم خيراً وأمر بالمحافظة على أموالهم فقال {وَآتُوا
الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} أي أعطوا اليتامى الذين مات آباؤهم وهم صغار
أموالهم إِذا بلغوا {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} أي لا
تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم {وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي لا تخلطوا أموال اليتامى بأموالكم
فتأكلوها جميعاً {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} أي ذنباً عظيماً، فإِن
اليتيم بحاجة إِلى رعاية وحماية لأنه ضعيف، وظلم الضعيف ذنب عظيم عند
الله.
ثم
أرشد تعالى إِلى ترك التزوج من اليتيمة إِذا لم يعطها مهر المثل فقال {وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أي إِذا كانت تحت حَجْر أحدكم يتيمة
وخاف ألا يعطيها مهر مثلها فليتركها إِلى ما سواها فإِن النساء كثير ولم يضيّق الله
عليه {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ} أي انكحوا ما شئتم من النساء سواهنَّ إِن شاء أحدكم اثنتين وإِن شاء
ثلاثاً وإِن شاء أربعاً.
{فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}
أي إِن خفتم من عدم العدل بين الزوجات فالزموا الاقتصار على واحدة {أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي اقتصروا على نكاح الإِماء لملك اليمين إِذ ليس لهن
من الحقوق كما للزوجات {ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} أي ذلك الاقتصار على
نكاح الإِماء لملك اليمين أقرب ألا تميلوا وتجوروا {وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} أي أعطوا النساء مهورهنّ عطيةً عن طيب نفسٍ
{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} أي فإِن طابت نفوسهن
بهبة شيءٍ من الصَّداق {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} أي فخذوا ذلك الشيء
الموهوب حلالاً طيباً.
{وَلا
تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ
قِيَامًا}
أي لا تعطوا المبذرين من اليتامى أموالهم التي جعلها الله قياماً للأبدان ولمعايشكم
فيضيعوها. قال ابن عباس: السفهاء هم الصبيان والنساء. وقال الطبري:
لا تؤتِ سفيهاً ماله وهو الذي يفسده بسوء تدبيره، صبياً كان أو رجلاً، ذكراً كان أو
أنثى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} أي أطعموهم منها واكسوهم
{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} أي قولاً ليناً كقولكم إِذا رَشَدْتم
سلمنا إِليكم أموالكم.
{وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}
أي اختبروا اليتامى حتى إِذا بلغوا سنَّ النكاح وهو بلوغ الحلم الذي يصلحون عنده
للنكاح {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ} أي إِن أبصرتم منهم صلاحاً في دينهم ومالهم فادفعوا إِليهم
أموالهم بدون تأخير {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ
يَكْبَرُوا} أي لا تسرعوا في إِنفاقها وتبذّروها قائلين ننفق كما نشتهي قبل أن
يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ}
أي من كان منكم غنياً أيها الأولياء فليعف عن مال اليتيم ولا يأخذ أجراً على وصايته
{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أي ومن كان فقيراً
فليأخذ بقدر حاجته الضرورية وبقدر أجرة عمله.
{فَإِذَا
دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}
أي فإِذا سلمتم إِلى اليتامى أموالهم بعد بلوغهم الرشد فأشهدوا على ذلك لئلا يجحدوا
تسليمها {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أي كفى بالله محاسباً
ورقيباً.
ثم
بيّن تعالى أن للرجال والنساء نصيباً من تركة الأقرباء فقال {لِلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا
تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} أي للأولاد والأقرباء حظ من تركة الميت
كما للبنات والنساء حظ أيضاً الجميع فيه سواء يستوون في أصل الوارثة وإِن تفاوتوا
في قدرها، وسببها أن بعض العرب كانوا لا يورّثون النساء والأطفال وكانوا يقولون:
إنما يرث من يحارب ويذبُّ عن الحوزة فأبطل الله حكم الجاهلية {مِمَّا قَلَّ
مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} أي سواء كانت التركة قليلة أو كثيرة { نَصِيبًا
مَفْرُوضًا} أي نصيباً مقطوعاً فرضه الله بشرعه العادل وكتابه المبين
.
{وَإِذَا
حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ
فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}
أي إِذا حضر قسمة التركة الفقراء من قرابة الميت واليتامى والمساكين من غير
الوارثين فأعطوهم شيئاً من هذه التركة تطييباً لخاطرهم {وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلاً مَعْرُوفًا} أي قولاً جميلاً بأن تعتذروا إِليهم أنه للصغار وأنكم لا
تملكونه {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً
ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} نزلت في الأوصياء أي تذكر أيها الوصي ذريتك
الضعاف من بعدك وكيف يكون حالهم وعامل اليتامى الذين في حَجْرك بمثل ما تريد أن
يُعامل به أبناؤك بعد فقدك {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً
سَدِيدًا} أي فليتقوا الله في أمر اليتامى وليقولوا لهم ما يقولونه لأولادهم من
عبارات العطف والحنان.
{إِنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا}
أي يأكلونها بدون حق {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} أي ما
يأكلون في الحقيقة إِلا ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة {وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيرًا} أي سيدخلون ناراً هائلة مستعرة وهي نار
السعير.
{يُوصِيكُمْ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}
أي يأمركم الله ويعهد إِليكم بالعدل في شأن ميراث أولادكم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} أي للابن من الميراث مثل نصيب البنتين {فَإِنْ كُنَّ
نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} أي إِن كان الوارث إِناثاً فقط اثنتين فأكثر
{فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أي فللبنتين فأكثر ثلثا التركة {وَإِنْ
كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} أي وإِن كانت الوارثة بنتاً واحدة فلها
نصف التركة ..بدأ تعالى بذكر ميراث الأولاد. ثم ذكر ميراث الأبوين لأن الفرع مقدم
في الإِرث على الأصل فقال تعالى {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ} أي للأب السدس وللأم السدس {مِمَّا تَرَكَ} أي من تركة الميت
{إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أي إِن وجد للميت ابن أو بنت لأن الولد يطلق على
الذكر والأنثى {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أي
فإِن لم يوجد للميت أولاد وكان الوارث أبواه فقط أو معهما أحد الزوجين
{فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} أي فللأم ثلث المال أو ثلث الباقي بعد فرض أحد
الزوجين والباقي للأب {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} أي
فإِن وجد مع الأبوين إِخوة للميت "اثنان فأكثر" فالأم ترث حينئذٍ السدس فقط والباقي
للأب، والحكمة أن الأب مكلف بالنفقة عليهم دون أمهم فكانت حاجته إِلى المال أكثر
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أي إِن حق الورثة يكون
بعد تنفيذ وصية الميت وقضاء ديونه فلا تقسم التركة إِلا بعد ذلك
.
{آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ
اللَّهِ}
أي إِنه تعالى تولّى قسمة المواريث بنفسه وفرض الفرائض على ما علمه من الحكمة، فقسم
حيث توجد المصلحة وتتوفر المنفعة ولو ترك الأمر إِلى البشر لم يعلموا ما هو أنفع
لهم فيضعون الأموال على غير حكمة ولهذا أتبعه بقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلِيمًا حَكِيمًا} أي إنه تعالى عليم بما يصلح لخلقه حكيم فيما شرع وفرض
.
ثم
ذكر تعالى ميراث الزوج والزوجة فقال {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ
إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} أي ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم من
المال إِن لم يكن لزوجاتكم أولاد منكم أو من غيركم {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ
فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} أي من ميراثهن، وألحق بالولد في ذلك ولد
الإِبن بالإِجماع {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أي من
بعد الوصية وقضاء الدين {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ
يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} أي ولزوجاتكم واحدة فأكثر الربع مما تركتم من الميراث
إِن لم يكن لكم ولد منهن أو من غيرهن .
{فَإِنْ
كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}
أي فإِن كان لكم ولد منهن أو من غيرهن فلزوجاتكم الثمن مما تركتم من المال {مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وفي تكرير ذكر الوصية والدين من
الاعتناء بشأنهما ما لا يخفي. {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} أي
وإِن كان الميت يورث كلالة أي لا والد له ولا ولد وورثه أقاربه البعيدون لعدم وجود
الأصل أو الفرع {أَوْ امْرَأَةٌ} عطف على رجل والمعنى أو امرأةٌ تورث كلالة
{وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} أي وللمورّث أخ أو أخت من أم {فَلِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} أي فللأخ من الأم السدس وللأخت للأم السدس أيضاً
.
{فَإِنْ
كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}
أي فإِن كان الإِخوة والأخوات من الأم أكثر من واحد فإِنهم يقتسمون الثلث بالسوية
ذكورهم وإِناثهم في الميراث سواء، قال في البحر: وأجمعوا على أن المراد في
هذه الآية الإِخوة للأم {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ
مُضَارٍّ} أي بقصد أن تكون الوصية للمصلحة لا بقصد الإِضرار بالورثة أي في حدود
الوصية بالثلث لقوله عليه السلام (الثلث والثلث كثير) {وَصِيَّةً مِنْ
اللَّهِ} أي أوصاكم الله بذلك وصية {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} أي عالم
بما شرع حليم لا يعاجل العقوبة لمن خالف أمره.
{تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ}
أي تلك الأحكام المذكورة شرائع الله التي حدّها لعباده ليعملوا بها ولا يعتدوها
{وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ} أي من يطع أمر الله فيما حكم وأمر رسوله فيما بيّن، يدخله جنات
النعيم التي تجري من تحت أشجارها وأبنيتها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي
ماكثين فيها أبداً {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي الفلاح العظيم
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} أي ومن يعص أمر
الله وأمر الرسول ويتجاوز ما حدّه تعالى له من الطاعات {يُدْخِلْهُ نَارًا
خَالِدًا فِيهَا} أي يجعله مخلداً في نار جهنم لا يخرُج منها أبداً {وَلَهُ
عَذَابٌ مُهِينٌ} أي وله عذاب شديد مع الإِهانة والإِذلال والعذاب
والنكال.
{وَاللاتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ}
أي اللواتي يزنين من أزواجكم فاطلبوا أن يشهد على اقترافهن الزنا أربعة رجال من
المسلمين الأحرار {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} أي
فإِن ثبتت بالشهود جريمتهن فاحبسوهن في البيوت {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ} أي احبسوهنَّ فيها إِلى الموت {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلاً} أي يجعل الله لهنَّ مخلصاً بما يشرعه من الأحكام، قال ابن
كثير: كان الحكم في ابتداء الإِسلام أن المرأة إِذا ثبت زناها بالبيِّنة
العادلة حُبست في بيت فلا تُمكَّن من الخروج منه إِلى أن تموت، حتى أنزل الله سورة
النور فنسخها بالجلد أو الرجم .
{وَاللَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ}
أي واللذان يفعلان الفاحشة والمراد الزاني والزانية بطريق التغليب
{فَآذُوهُمَا} أي بالتوبيخ والتقريع والضرب بالنعال {فَإِنْ تَابَا
وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} أي فإِن تابا عن الفاحشة وأصلحا سيرتهما
فكفّوا عن الإِيذاء لهما {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} أي
مبالغاً في قبول التوبة واسع الرحمة. قال الفخر الرازي: "خص الحبس في البيت
بالمرأة وخص الإِيذاء بالرجل لأن المرأة إِنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز
فإِذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية، وأما الرجل فإِنه لا يمكن حبسه في
البيت لأنه يحتاج إِلى الخروج في إِصلاح معاشه واكتساب قوت عياله فلا جرم جعلت
عقوبتهما مختلفة".
{إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ
بِجَهَالَةٍ}
أي إِنما التوبة التي كتب الله على نفسه قبولها هي توبة من فعل المعصية سفهاً
وجهالة مقدِّراً قبح المعصية وسوء عاقبتها ثم ندم وأناب {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ
قَرِيبٍ} أي يتوبون سريعاً قبل مفاجأة الموت {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ} أي يتقبل الله توبتهم {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}
أي عليماً بخلقه حكيماً في شرعه.
{وَلَيْسَتْ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ
الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ}
أي وليس قبول التوبة ممن ارتكب المعاصي واستمر عليها حتى إِذا فاجأه الموت تاب
وأناب فهذه توبة المضطر وهي غير مقبولة وفي الحديث (إِن الله يقبل توبة العبد ما لم
يغرغر) {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} أي يموتون على الكفر
فلا يُقبل إِيمانهم عند الاحتضار {أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا} أي هيأنا وأعددنا لهم عذاباً مؤلماً.
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ
كَرْهًا}
أي لا يحل لكم أن تجعلوا النساء كالمتاع ينتقل بالإِرث من إِنسان إِلى آخر وترثوهن
بعد موت أزواجهن كرهاً عنهن، قال ابن عباس: كانوا في الجاهليةُ إِذا مات
الرجل كان أولياؤه أحقَّ بامرأته إِن شاءوا تزوجها أحدهم، وإِن شاءوا زوجوها غيرهم،
وإن شاءوا منعوها الزواج {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ} أي ولا يحل لكم أن تمنعوهن من الزواج أو تضيقوا عليهن لتذهبوا
ببعض ما دفعتموه لهن من الصَّداق {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ} أي إِلا في حال إِتيانهن بفاحشة الزنا،وقال ابن عباس:
الفاحشة المبينة النشوز والعصيان .
{وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ}
أي صاحبوهن بما أمركم الله به من طيب القول والمعاملة بالإِحسان {فَإِنْ
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ
خَيْرًا كَثِيرًا} أي فإِن كرهتم صحبتهن فاصبروا عليهن واستمروا في الإِحسان
إِليهن فعسى أن يرزقكم الله منهن ولداً صالحاً تَقَرُّ به أعينكم، وعسى أن يكون في
الشيء المكروه الخير الكثير وفي الحديث الصحيح (لا يَفْركْ "أي لا يبغض" مؤمنٌ
مؤمنة إِن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر) .
ثم
حذّر تعالى من أخذ شيء من المهر بعد الطلاق فقال {وَإِنْ أَرَدْتُمْ
اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} أي وإِن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة
مكان امرأة طلقتموها {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} أي والحال أنكم
كنتم قد دفعتم مهراً كبيراً يبلغ قنطاراً {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}
أي فلا تأخذوا ولو قليلاً من ذلك المهر {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا
مُبِينًا} استفهام إِنكاري أي أتأخذونه باطلاً وظلماً؟
{وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}
أي كيف يباح لكم أخذه وقد استمعتم بهن بالمعاشرة الزوجية؟ {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ
مِيثَاقًا غَلِيظًا} أي أخذن منكم عهداً وثيقاً مؤكداً هو "عقد النكاح" قال
مجاهد: الميثاق الغليظ عقدة النكاح وفي الحديث (اتقوا الله في النساء فإِنكم
أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).
{وَلا
تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ
سَلَفَ}
أي لا تتزوجوا ما تزوج آباؤكم من النساء لكن ما سبق فقد عفا الله عنه {إِنَّهُ
كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا} أي فإِن نكاحهن أمر قبيح قد تناهى في القبح
والشناعة، وبلغ الذروة العليا في الفظاعة والبشاعة، إِذا كيف يليق بالإِنسان أن
يتزوج امرأة أبيه وأن يعلوها بعد وفاته وهي مثل أمه؟ {وَسَاءَ سَبِيلاً} أي
بئس ذلك النكاح القبيح الخبيث طريقاً.
ثم
بيّن تعالى المحرمات من النساء فقال {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}
أي حُرّم عليكم نكاح الأمهات وشمل اللفظ الجدات من قبل الأب أو الأم
{وَبَنَاتُكُمْ} وشمل بنات الأولاد وإِن نزلن {وَأَخَوَاتُكُمْ} أي
شقيقة كانت أو لأب أو لأم {وَعَمَّاتُكُمْ} أي أخوات آبائكم وأخوات أجدادكم
{وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} أي بنت الأخ وبنت
الأخت ويدخل فيهن أولادهن، وهؤلاء المحرمات بالنسب وهنَّ كما تقدم "الأمهات،
البنات، الأخوات، العمات، الخالات، بنات الأخ، بنات الأخت" ثم شرع تعالى في ذكر
المحرمات من الرضاع فقال {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} نزّل الله الرضاعة منزلة النسب حتى سمّى
المرضعة أماً للرضيع أي كما يحرم عليك أمك التي ولدتك، كذلك يحرم عليك أمك التي
أرضعتك، وكذلك أختك من الرضاع، ولم تذكر الآية من المحرمات بالرضاع سوى "الأمهات
والأخوات" وقد وضحت السنة النبوية أن المحرمات بالرضاع سبع كما هو الحال في النسب
لقوله عليه السلام (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
ثم
ذكر تعالى المحرمات بالمصاهرة فقال {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} أي وكذلك
يحرم نكاح أم الزوجة سواء دخل بالزوجة أو لم يدخل لأن مجرد العقد على البنت يحرم
الأم {وَرَبَائِبُكُمْ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} أي بنات أزواجكم اللاتي
ربيتموهن، وذكرُ الحجر ليس للقيد وإِنما هو للغالب لأن الغالب أنها تكون مع أمها
ويتولى الزوج تربيتها وهذا بالإِجماع {مِنْ نِسَائِكُمْ اللاتِي دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}
الدخول هنا كناية عن الجماع أي من نسائكم اللاتي أدخلتموهن الستر قاله ابن عباس
فإِن لم تكونوا أيها المؤمنون قد دخلتم بأمهاتهن وفارقتموهن فلا جناح عليكم في نكاح
بناتهن {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} أي وحُرم
عليكم نكاح زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم بخلاف من تبنيتموهم فلكم نكاح
حلائلهم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} أي
وحُرّم عليكم الجمع بين الأختين معاً في النكاح إِلا ما كان منكم في الجاهلية فقد
عفا الله عنه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي غفوراً لما سلف
رحيماً بالعباد.
{وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
أي وحرّم عليكم نكاح المتزوجات من النساء إِلا ما ملكتموهن بالسبي فيحل لكم وطؤهنَّ
بعد الاستبراء ولو كان لهنَّ أزواج في دار الحرب لأن بالسبي تنقطع عصمة الكافر
{ولا تمسكوا بعِصم الكوافر} {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي هذا فرض
الله عليكم {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أي أُحل لكم نكاح ما
سواهنّ {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}
أي إِرادة أن تطلبوا النساء بطريق شرعي فتدفعوا لهن المهور حال كونكم متزوجين غير
زانين {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
فَرِيضَةً} أي فما تلذذتم به من النساء بالنكاح فآتوهنَّ مهورهن فريضةً فرضها
الله عليكم بقوله {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}.
ثم
قال تعالى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ
الْفَرِيضَةِ} أي لا إِثم عليكم فيما أسقطن من المهر برضاهن كقوله {فإِن طبن
لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} قال ابن كثير : أي إِذا فرضت لها
صداقاً فأبرأتك منه أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك {إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عليماً بمصالح العباد حكيماً فيما شرع لهم
من الأحكام.
{وَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ}
أي من لم يكن منكم ذا سعة وقدرة أن يتزوج الحرائر المؤمنات {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} أي فله أن ينكح من الإِماء
المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} جملة
معترضة لبيان أنه يكفي في الإِيمان معرفة الظاهر والله يتولى السرائر
{بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي إِنكم جميعاً بنو آدم ومن نفسٍ واحدة فلا
تستنكفوا من نكاحهن فرب أمة خير من حرة، وفيه تأنيس لهم بنكاح الإِماء فالعبرةُ
بفضل الإِيمان لا بفضل الأحساب والأنساب .
{فَانكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ}
أي تزوجوهن بأمر أسيادهن وموافقة مواليهن {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} أي ادفعوا لهن مهورهن عن طيب نفسٍ ولا تبخسوهن منه شيئاً
استهانة بهن لكونهن إِماء مملوكات {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ}
أي عفيفات غير مجاهرات بالزنى {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} أي ولا متسترات
بالزنى مع أخدانهن، قال ابن عباس: الخِدنُ هو الصديق للمرأة يزني بها سراً
فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
{فَإِذَا
أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ}
أي فإِذا أُحصنَّ بالزواج ثم زنين فعليهن نصف ما على الحرائر من عقوبة الزنى
{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} أي إِنما يباح نكاح الإِماء لمن
خاف على نفسه الوقوع في الزنى {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي صبركم
وتعففكم عن نكاحهن أفضل لئلا يصير الولد رقيقاً وفي الحديث (من أراد أن يلقى الله
طاهراً مطهراً فلينكح الحرائر) {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واسع المغفرة
عظيم الرحمة.
{يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}
أي يريد الله أن يفصّل لكم شرائع دينكم ومصالح أموركم {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي يرشدكم إِلى طرائق الأنبياء الصالحين لتقتدوا
بهم {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي يقبل توبتكم فيما اقترفتموه من الإِثم
والمحارم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوال العباد حكيم في تشريعه
لهم.
{وَاللَّهُ
يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}
كرّره ليؤكد سعة رحمته تعالى على العباد أي يحب بما شرع من الأحكام أن يطهركم من
الذنوب والآثام، ويريد توبة العبد ليتوب عليه {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} أي ويريد الفجرة أتباع الشيطان
أن تعدلوا عن الحق إِلى الباطل وتكونوا فسقة فجرة مثلهم {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} أي يريد تعالى بما يسَّر أن يسهّل عليكم أحكام الشرع
{وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} أي عاجزاً عن مخالفة هواه لا يصبر عن إِتباع
الشهوات.
ثم
حذر تعالى من أكل أموال الناس بالباطل فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أي يا أيها الذين صدقوا
الله ورسوله لا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل وهو كل طريق لم تبحه الشريعة كالسرقة
والخيانة والغصب والربا والقمار وما شاكل ذلك {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ} أي إِلا ما كان بطريق شرعي شريف كالتجارة التي أحلها الله،
قال ابن كثير: الاستثناء منقطع أي لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب
الأموال لكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراضٍ من البائع والمشتري فافعلوها
{وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} أي لا
يسفك بعضكم دم بعض، والتعبير عنه بقتل النفس للمبالغة في الزجر، أو هو على ظاهره
بمعنى الانتحار وذلك من رحمته تعالى بكم {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا
وَظُلْمًا} أي ومن يرتكب ما نهى الله عنه معتدياً ظالماً لا سهواً ولا خطأً
{فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} أي ندخله ناراً عظيمة يحترق فيها {وَكَانَ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} أي هيناً يسيراً لا عسر فيه لأنه تعالى لا
يعجزه شيء.
{إِنْ
تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ}
أي إِن تتركوا أيها المؤمنون الذنوب الكبائر التي نهاكم الله عز وجل عنها نمح عنكم
صغائر الذنوب بفضلنا ورحمتنا {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} أي
نُدخلكم الجنة دار الكرامة والنعيم، التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا
خطر على قلب بشر!.
{وَلا
تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}
أي لا تتمنوا أيها المؤمنون ما خصّ الله تعالى به غيركم من أمر الدنيا أو الدين ذلك
يؤدي إِلى التحاسد والتباغض، قال الزمخشري: نهُوا عن الحسد وعن تمني ما فضل
الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن
حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد.
{لِلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبْنَ}
أي لكلٍ من الفريقين في الميراث نصيبٌ معين المقدار، قال الطبري: كلٌ له
جزاء على عمله بحسبه إِن خيراً فخير وإِن شراً فشر {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ
فَضْلِهِ} أي وسلوا الله من فضله يعطكم فإِنه كريم وهاب {إِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أي ولذلك جعل الناس طبقات ورفع بعضهم
درجات.
{وَلِكُلٍّ
جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ}
أي ولكل إِنسانٍ جعلنا عصبةً يرثون ماله ممّا تركه الوالدان والأقارب من الميراث
{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي والذين
حالفتموهم في الجاهلية على النصرة والإِرث فأعطوهم حظهم من الميراث، وقد كان هذا في
ابتداء الإِسلام ثم نسخ، قال الحسن: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسبٌ
فيرث أحدُهما الآخر فنسخ الله ذلك بقوله {وأولوا الأرحام بعضُهم أولى ببعض}
وقال ابن عباس: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجريُّ الأنصاريَّ
دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخ التوراة بين المهاجرين والأنصار
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أي مطلعاً على كل شيء
وسيجازيكم عليه.
ثم
بيّن تعالى أن الرجال يتولون أمر النساء في المسؤولية والتوجيه فقال {الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} أي قائمون عليهن بالأمر والنهي، والإِنفاق
والتوجيه كما يقوم الولاة على الرعية {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى
بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أي بسبب ما منحهم الله من العقل
والتدبير، وخصهم به من الكسب والإِنفاق، فهم يقومون على النساء بالحفظ والرعاية
والإِنفاق والتأديب، قال أبو السعود: "والتفضيلُ للرجل لكمال العقل وحسن
التدبير ورزانة الرأي ومزيد القوة، ولذلك خصوا بالنبوة والإِمامة والولاية والشهادة
والجهاد وغير ذلك" .
{فَالصَّالِحَاتُ
قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}
هذا تفصيل لحال النساء تحت رياسة الرجل، وقد ذكر تعالى أنهن قسمان : قسم صالحات
مطيعات، وقسم عاصيات متمردات، فالنساء الصالحات مطيعات لله ولأزواجهن، قائمات بما
عليهن من حقوق، يحفظن أنفسهن عن الفاحشة وأموال أزواجهن عن التبذير كما أنهن حافظات
لما يجري بينهن وبين أزواجهن مما يجب كتمه ويجمل ستره وفي الحديث (إِن من شر الناس
عند الله منزلةً يوم القيامة، الرجلُ يُفْضي إِلى امرأته وتُفْضي إِليه ثم ينشر
أحدهما سرَّ صاحبه) .
{وَاللاتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}
هذا القسم الثاني وهنَّ النساء العاصيات المتمردات أي واللاتي يتكبرن ويتعالين عن
طاعة الأزواج فعليكم أيها الرجال أن تسلكوا معهن سبل الإِصلاح {فَعِظُوهُنَّ
وَاهْجُرُوهُنّ َفِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} أي فخوفوهنَّ الله بطريق
النصح والإِرشاد، فإِن لم ينجح الوعظ والتذكير فاهجروهنَّ في الفراش فلا تكلموهن
ولا تقربوهن، قال ابن عباس: الهجر ألا يجامعها وأن يضاجعها على فراشها
ويوليها ظهره، فإِن لم يرتدعن فاضربوهن ضرباً غير مبرّح {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ
فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي فإِن أطعن أمركم فلا تلتمسوا طريقاً
لإِيذائهن {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} أي فإِن الله تعالى أعلى
منكم وأكبر وهو وليهن ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن .. انظر كيف يعلمنا سبحانه أن
نؤدب نسائنا وانظر إِلى ترتيب العقوبات ودقتها حيث أمرنا بالوعظ ثم بالهجران ثم
بالضرب ضرباً غير مبرح ثم ختم الآية بصفة العلو والكبر لينبه العبد على أن قدرة
الله فوق قدرة الزوج عليها وأنه تعالى عون الضعفاء وملاذ المظلومين !!
.
{وَإِنْ
خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ
أَهْلِهَا}
أي وإِن خشيتم أيها الحكام مخالفةً وعداوةً بين الزوجين فوجهوا حكماً عدلاً من أهل
الزوج وحكماً عدلاً من أهل الزوجة يجتمعان فينظران في أمرهما ويفعلان ما فيه
المصلحة {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} أي إِن
قصدا إِصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله، بورك في
وساطتها وأوقع الله بين الزوجين الوفاق والألفة وألقى في نفوسهما المودة والرحمة
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} أي عليماً بأحوال العباد حكيماً في
تشريعه لهم.
إرسال تعليق