adsens

[احاديث نبوية ][horizontal][recent][5]


      {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} أي قل: يا ألله يا مالك كل شيء {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} أي أنت المتصرف في الأكوان، تهب الملك لمن تشاء وتخلع الملك ممن تشاء {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} أي تعطي العزة لمن تشاء والذلة لمن تشاء {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي بيدك وحدك خزائن كل خير وأنت على كل شيء قدير .
{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ} أي تدخل الليل في النهار كما تدخل النهار في الليل، فتزيد في هذا وتنقص في ذاك والعكس، وهكذا في فصول السنة شتاءً وصيفاً {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ} أي تخرج الزرع من الحب والحب من الزرع، والنخلةَ من النواة والنواة من النخلة، والبيضةَ من الدجاجة والدجاجةَ من البيضة، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن هكذا قال ابن كثير، وقال الطبري: "وأولى التأويلات بالصواب تأويل من قال: يخرج الإنسان الحيَّ والأنعام والبهائم من النطف الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الإِنسان الحي والأنعام والبهائم الأحياء" {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي تعطي من تشاء عطاءً واسعاً بلا عدٍّ ولا تضييق.

{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(28)قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(29)يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ(30)}

      ثم نهى تعالى عن اتخاذ الكافرين أنصاراً وأحباباً فقال {لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي لا توالوا أعداء الله وتتركوا أولياءه فمن غير المعقول أن يجمع الإِنسان بين محبة الله وبين محبة أعدائه، قال الزمخشري: نُهوا أن يوالوا الكافرين لقرابةٍ بينهم أو صداقة أو غير ذلك من الأسباب التي يُتَصادق بها ويُتَعاشر {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي من يوالِ الكفرة فليس من دين الله في شيء {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي إِلا أن تخافوا منهم محذوراً أو تخافوا أذاهم وشرهم، فأظهروا موالاتهم باللسان دون القلب، لأنه من نوع مداراة السفهاء كما روي " إنّا لنبش في وجوه أقوامٍ وقلوبنا تلعنهم" {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي يخوّفكم الله عقابه الصادر منه تعالى {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي المنقلب والمرجع فيجازي كل عاملٍ بعمله.
{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} أي إِن أخفيتم ما في قلوبكم من موالاة الكفار أو أظهرتموه فإِن الله مطلع عليه لا تخفى عليه خافية {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي عالم بجميع الأمور، يعلم كل ما هو حادث في السماوات والأرض {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وهو سبحانه قادر على الانتقام ممن خالف حكمه وعصى أمره، وهو تهديد عظيم {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} أي يوم القيامة يجد كل إِنسان جزاء عمله حاضراً لا يغيب عنه، إِن خيراً فخير وإِن شراً فشر، فإِن كان عمله حسناً سرّه ذلك وأفرحه {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} أي وإِن كان عمله سيئاً تمنّى أن لا يرى عمله، وأحبَّ أن يكون بينه وبين عمله القبيح غايةً في نهاية البعد أي مكاناً بعيداً كما بين المشرق والمغرب {وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي يخوفكم عقابه {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} أي رحيم بخلقه يحبّ لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم.


      {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} أي قل لهم يا محمد إِن كنتم حقاً تحبون الله فاتبعوني لأني رسوله يحبكم الله {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي باتباعكم الرسول وطاعتكم لأمره يحبكم الله ويغفر لكم ما سلف من الذنوب، قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة حاكمةٌ على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإِنه كاذب في دعواه تلك حتى يتّبع الشرع المحمدي في جميع أقواله وأفعاله" .
ثم قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي أعرضوا عن الطاعة {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} أي لا يحب من كفر بآياته وعصى رسله بل يعاقبه ويخزيه {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءامنوا مَعَهُ} [التحريم: 8].

المنَاسَــبَة:
      لما بيّن تعالى أن محبته لا تتم إِلا بمتابعة الرسل وطاعتهم، بيّن علوَّ درجات الرسل وشرف مناصبهم، فبدأ بآدم أولهم، وثنَّى بنوح أبي البشر الثاني، ثم أتى ثالثاً بآل إِبراهيم فاندرج فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه من ولد إِسماعيل، ثم أتى رابعاً بآل عمران فاندرج فيه عيسى عليه السلام، وأعقب ذلك بذكر ثلاث قصص: قصة ولادة مريم، وقصة ولادة يحيى، وقصة ولادة عيسى، وهي خوارق للعادة تدل على قدرة العلي القدير.

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33)ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(34)إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(35)فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(36)فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37)}

      {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} أي اختار للنبوة صفوة خلقه منهم آدم أبو البشر {وَنُوحًاً} شيخ المرسلين {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ} أي عشيرته وذوي قرباه وهم إِسماعيل وإِسحاق والأنبياء من أولادهما ومن جملتهم خاتم المرسلين {وَآلَ عِمْرَانَ} أي أهل عمران ومنهم عيسى بن مريم خاتم رسل بني إِسرائيل {عَلَى الْعَالَمِينَ} أي عالمي زمانهم، قال القرطبي: وخصَّ هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن الأنبياء والرسل جميعاً من نسلهم {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} أي اصطفاهم متجانسين في الدين والتُّقى والصلاح {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوال العباد عليم بضمائرهم .
{إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ} أي اذكر لهم وقت قول امرأة عمران واسمها "حنَّة بنت فاقود" {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي} أي نذرت لعبادتك وطاعتك ما أحمله في بطني {محرراً} أي مخلصاً للعبادة والخدمة {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لدعائي العليم بنيّتي {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} أي لمَّا ولدتها قالت على وجه التحسر والاعتذار يا ربّ إِنها أنثى، قال ابن عباس: إِنما قالت هذا لأنه لم يكن يُقبل في النذر إِلا الذكور فقبل الله مريم قال تعالى {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} أي والله أعلم بالشيء الذي وضعت قالت ذلك أولم تقله {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى} أي ليس الذكر الذي طَلَبْته كالأنثى التي وُهِبتها بل هذه أفضل والجملتان معترضتان من كلامه تعالى تعظيماً لشأن هذه المولودة وما علّق بها من عظائم الأمور وجعلها وابنها آيةَ للعالمين {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} من تتمة كلام امرأة عمران والأصل إِني وضعتُها أنثى وإِني سميتُها مريم أي أسميت هذه الأنثى مريم ومعناه في لغتهم العابدة خادمة الرب {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} أي أُجيرها بحفظك وأولادها من شر الشيطان الرجيم.
فاستجاب الله لها ذلك قال تعالى {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أي قبلها الله قبولاً حسناً، قال ابن عباس: سلك بها طريق السعداء {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} أي ربّاها تربية كاملة ونشأها تنشئة صالحة {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي جعل زكريا كافلاً لها ومتعهداً للقيام بمصالحها، حتى إِذا بلغت مبلغ النساء انزوت في محرابها تتعبد لله {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} أي كلما دخل عليها زكريا حجرتها ومكان عبادتها وجد عندها فاكهة وطعاماً، قال مجاهد: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا}؟ أي من أين لك هذا؟ {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي رزقاً واسعاً بغير جهد ولا تعب.

{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ(38)فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ(39)قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(40)قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي ءايَةً قَالَ ءايَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ(41)}

      {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} أي في ذلك الوقت الذي رأى فيه زكريا كرامة الله لمريم دعا ربّه متوسلاً ومتضرعاً {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أي أعطني من عندك ولداً صالحاً - وكان شيخاً كبيراً وامرأته عجوزاً وعاقراً - ومعنى طيبة صالحة مباركة {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} أي مجيبٌ لدعاء من ناداك {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} أي ناداه جبريل حال كون زكريا قائما في الصلاة {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} أي يبشرك بغلام اسمه يحيى {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ} أي مصدقاً بعيسى مؤمناً برسالته، وسمي عيسى كلمة الله لأنه خلق بكلمة "كن" من غير أب {وَسَيِّدًا} أي يسود قومه ويفوقهم {وَحَصُورًا} أي يحبس نفسه عن الشهوات عفةً وزهداً ولا يقرب النساء مع قدرته على ذلك، وما قاله بعض المفسرين أنه كان عنَيناً فباطل لا يجوز على الأنبياء لأنه نقص وذم والآية وردت مورد المدح والثناء {وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ} أي ويكون نبياً من الأنبياء الصالحين، قال ابن كثير: وهذه بشارة ثانية بنبوته بعد البشارة بولادته وهي أعلى من الأولى كقوله لأم موسى {إِنا رادّوه إِليك وجاعلوه من المرسلين} .
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} أي كيف يأتينا الولد {وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ} أي أدركتني الشيخوخة وكان عمره حينذاك مائة وعشرين سنة {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} أي عقيم لا تلد وكانت زوجته بنت ثمان وتسعين سنة، فقد اجتمع فيهما الشيخوخة والعقم في الزوجة وكلٌ من السببين مانع من الولد {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} أي لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي ءايَةً} أي علامة على حمل امرأتي {قَالَ ءايَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} أي علامتك عليه أن لا تقدر على كلام الناس إِلا بالإِشارة ثلاثة أيام بلياليها مع أنك سويٌّ صحيح والغرض أنه يأتيه مانع سماوي يمنعه من الكلام بغير ذكر الله {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} أي اذكر الله ذكراً كثيراً بلسانك شكراً على النعمة، فقد منع عن الكلام ولم يُمنع عن الذكر لله والتسبيح له وذلك أبلغ في الإِعجاز {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ} أي نزّه الله عن صفات النقص بقولك سبحان الله في آخر النهار وأوله. وقيل: المراد صلّ لله، قال الطبري: يعني عظّم ربك بعبادته بالعشي والإِبكار.

      لما رأى زكريا آيات الله الباهرات وإكرامه تعالى لمريم ورزقها من حيث لا تحتسب، دعا ربه ليرزقه ذرية طيبة مباركة تلي أمور بني إسرائيل، فحملت زوجه بيحيى وبشره الله بنبوته، وأعلمه أن آية ذلك أن يعجز عن الكلام مع الناس ثلاثة أيام لا يكلمهم إلا رمزاً.
      وقد منع زكريا الكلام بآفة دخلت عليه منعته إياه، وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة. أما عن ذكر الله فلا.


      {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} أي اذكر وقت قول الملائكة أي جبريل يا مريم إِن الله اختارك من بين سائر النساء فخصَّكِ بالكرامات {وَطَهَّرَكِ} من الأدناس والأقذار ومما اتهمكِ به اليهود من الفاحشة {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} أي اختارك على سائر نساء العالمين لتكوني مظهر قدرة الله في إِنجاب ولد بدون أب .
{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} أي إِلزمي عبادته وطاعته شكراً على اصطفائه {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي صلي لله مع المصلين {ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} أي هذا الذي قصصناه عليك من قصة امرأة عمران وابنتها مريم البتول ومن قصة زكريا ويحيى إِنما هو من الأنباء المغيبة والأخبار الهامة التي أوحينا بها إِليك يا محمد ما كنت تعلمها من قبل {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أي ما كنت عندهم إِذا يختصمون ويتنافسون على كفالة مريم حين ألقوا سهامهم للقرعة كلٌ يريدها في كنفه ورعايته {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي يتنازعون فيمن يكفلها منهم، والغرض أن هذه الأخبار كانت وحياً من عند الله العليم الخبير .. روي أن حنّة حين ولدتها لفَّتها في خرقة وحملتها إِلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إِمامهم ثم اقترعوا فخرجت في كفالة زكريا فكفلها، قال ابن كثير: وإِنما قدّر الله كون زكريا كافلاً لها لسعادتها لتقتبس منه علماً جماً وعملاً صالحاً.

{إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالأخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ(45)وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ(46)قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(47)وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ(48)وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بئايَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ(49)وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُون(50)إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(51)}

      {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} أي بمولودٍ يحصل بكلمة من الله بلا واسطة أب {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أي اسمه عيسى ولقبه المسيح، ونسبَه إِلى أمه تنبيهاً على أنها تلده بلا أب {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالأخِرَةِ} أي سيداً ومعظماً فيهما {وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} عند الله {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} أي طفلاً قبل وقت الكلام ويكلمهم كهلاً قال الزمخشري "ومعناه يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوتٍ بين حال الطفولة وحال الكهولة" ولا شك أن ذلك غاية في الإعجاز {وَمِنْ الصَّالِحِينَ} أي وهو من الكاملين في التقى والصلاح.
{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} أي كيف يأتيني الولد وأنا لست بذات زوج؟ {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء يخلق بسببٍ من الوالدين وبغير سبب {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي إِذا أراد شيئاً حصل من غير تأخرٍ ولا حاجةٍ إِلى سبب، يقول له كن فيكون {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} أي الكتابة {وَالْحِكْمَةَ} أي السداد في القول والعمل أو سنن الأنبياء {وَالتَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ} أي ويجعله يحفظ التوراة والإِنجيل، قال ابن كثير: وقد كان عيسى يحفظ هذا وهذا .
{وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي ويرسله رسولاً إِلى بني إِسرائيل قائلاً لهم {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي بأني قد جئتكم بعلامةٍ تدل على صدقي وهي ما أيدني الله به من المعجزات، وآيةُ صدقي {أنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} أي أصوّر لكم من الطين مثل صورة الطير {فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي أنفخ في تلك الصورة فتصبح طيراً بإِذن الله. قال ابن كثير: وكذلك كان يفعل، يصوّر من الطين شكل طير ثم ينفخ فيه فيطير عياناً بإِذن الله عز وجل الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله، وهذه المعجزة الأولى {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ} أي أشفي الذي ولد أعمى كما أشفي المصاب بالبرص، وهذه المعجزة الثانية {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} أي أحيي بعض الموتى لا بقدرتي ولكن بمشيئة الله وقدرته، وقد أحيا أربعة أنفس: عازر وكان صديقاً له،وابن العجوز، وبنت العاشر، وسام بن نوح هكذا ذكر القرطبي وغيره، وكرر لفظ "بإِذن الله" دفعاً لتوهم الألوهية، وهذه المعجزة الثالثة .
{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} أي وأخبركم بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكُّون فيها فكان يخبر الشخص بما أكل وما ادخر في بيته وهذه هي المعجزة الرابعة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} أي فيما أتيتكم به من المعجزات علامة واضحة تدل على صدقي إِن كنتم مصدّقين بآيات الله، ثم أخبرهم أنه جاء مؤيداً لرسالة موسى فقال {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ} أي وجئتكم مصدقاً لرسالةموسى، مؤيداً لما جاء به في التوراة {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} أي ولأحلّ لكم بعض ما كان محرماً عليكم في شريعة موسى، قال ابن كثير: وفيه دليل على أن عيسى نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح .
{وَجِئْتُكُمْ بئايَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي جئتكم بعلامة شاهدة على صحة رسالتي وهي ما أيدني الله به من المعجزات وكرِّر تأكيداً {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي خافوا الله وأطيعوا أمري {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} أي أنا وأنتم سواء في العبودية له جلَّ وعلا {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي فإِن تقوى الله وعبادته، والإِقرار بوحدانيته هو الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.


{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(52)رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(53)وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(54)إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(55)فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(56)وَأَمَّا الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(57)ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الأيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ(58)}

      {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ} أي استشعر من اليهود التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال وإِرادتهم قتله {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي من أنصاري في الدعوة إِلى الله، قال مجاهد: أي من يتبعني إِلى الله {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي قال المؤمنون الأصفياء من أتباعه نحن أنصار دين الله {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أي صدقنا بالله وبما جئتنا به واشهد بأننا منقادون لرسالتك مخلصون في نصرتك {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي آمنا بآياتك واتبعنا رسولك عيسى فاكتبنا مع من شهد لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق .
ثم أخبر تعالى عن اليهود المتآمرين الذين أرادوا قتل عيسى فقال {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} أي أرادوا قتله فنجّاه الله من شرهم ورفعه إِلى السماء دون أن يمسَّ بأذى وألقى شبهه على ذلك الخائن "يهوذا" وسمّي مكراً من باب المشاكلة ولهذا قال {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} أي أقواهم مكراً بحيث جعل تدميرهم في تدبيرهم وفي الحديث (اللهمَّ امكرْ لي ولا تمكر عليَّ) .
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} أي إِني رافعك إِلى السماء ثم مميتك بعد استيفائك كامل أجلك والمقصود بشارته بنجاته من اليهود ورفعه إِلى السماء سالماً دون أذى، قال قتادة: هذا من المقدم والمؤخر تقديره إِني رافعك إِلىَّ ثم متوفيك بعد ذلك، وقد ذكره الطبري فقال: وقال آخرون معنى ذلك: إِذ قال الله يا عيسى إِني رافعك إِليَّ ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إِنزالي إِيّاك إِلى الدنيا {وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي مخلصك من شر الأشرار الذين أرادوا قتلك، قال الحسن: طهّره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي جاعل أتباعك الذين ءامنوا بك فوق الذين جحدوا نبوتك ظاهرين على من ناوأهم إِلى يوم القيامة وقال في تفسير الجلالين: {الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} أي صدقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهم اليهود يعلونهم بالحجة والسيف {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي ثم مصيركم إِلى الله فيقضي بين جميعكم بالحق فيما كنتم تختلفون فيه من أمر عيسى.
{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي أما الكافرون بنبوتك المخالفون لملتك فإِني معذبهم عذاباً شديداً في الدنيا بالقتل والسبي، وبالآخرة بنار جهنم {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي ليس لهم ناصر يمنع عنهم عذاب الله {وَأَمَّا الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي وأما المؤمنون فيعطيهم جزاء أعمالهم الصالحة كاملةً غير منقوصة {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي لا يحب من كان ظالماً فكيف يظلم عباده؟ {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ} أي هذه الأنباء التي نقصها عليك يا محمد {مِنْ الأيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} أي من آيات القرآن الكريم المحكم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(59)الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(60)فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(61)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(62)فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63)}.

      {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ} أي إِن شأن عيسى إِذ خلقه بلا أب - وهو في بابه غريب - كشأن آدم {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي خلقَ آدم من غير أب ولا أم ثم قال له كن فكان، فليس أمر عيسى بأعجب من أمر آدم {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي هذا هو القول الحق في عيسى فلا تكن من الشاكين.
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنْ الْعِلْمِ} أي من جادلك في أمر عيسى بعدما وضح لك الحق واستبان {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} أي هلمّوا نجتمع ويدعُ كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إِلى المباهلة في صحيح مسلم لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسناً وحُسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} أي نتضرع إِلى الله فنقول: اللهم العنْ الكاذب منا في شأن عيسى، فلما دعاهم إِلى المباهلة امتنعوا وقبلوا بالجزية عن ابن عباس أنه قال "لو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً" قال أبو حيان: "وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بصدقه شاهد عظيم على صحة نبوته" .
ثم قال تعالى {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا شك فيه {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ} أي لا يوجد إِله غير الله، وفيه ردٌّ على النصارى في قولهم بالتثليثَ {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي هو جل شأنه العزيز في ملكه الحكيم في صنعه {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} أي إِن أعرضوا عن الإِقرار بالتوحيد فإِنهم مفسدون والله عليم بهم وسيجازيهم على ذلك شر الجزاء.
  
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64)يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإنجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(65)هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(66)مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(67)إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ(68)}

      {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىكَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي قل لهم يا معشر اليهود والنصارى هلموا إِلى كلمة عادلة مستقيمة فيها إِنصاف من بعضنا لبعض {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} أي أن نفرد الله وحده بالعبادة ولا نجعل له شريكاً {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي لا يعبد بعضنا بعضاً كما عبد اليهود والنصارى عزيراً وعيسى، وأطاعوا الأحبار والرهبان فيما أحلوا لهم وحرّموا، روي أن الآية لمّا نزلت قال عدي بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم أما كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم؟ فقال: نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو ذاك {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي فإِن أعرضوا عن التوحيد ورفضوا قبول تلك الدعوة العادلة فقولوا أنتم اشهدوا يا معشر أهل الكتاب بأننا موحّدون مسلمون، مقرّون لله بالوحدانية مخلصون له العبادة .
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} أي يا معشر اليهود والنصارى لم تجادلون وتنازعون في إِبراهيم وتزعمون أنه على دينكم {وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإنجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ} أي والحال أنه ما حدثت هذه الأديان إِلا من بعده بقرونٍ كثيرة فكيف يكون من أهلها؟ {أَفَلا تَعْقِلُونَ} بطلان قولكم؟ فقد كان بين إِبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى ألفا سنة فكيف يقول بذلك عاقل؟ والاستفهام للتوبيخ .
{هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي ها أنتم يا معشر اليهود والنصارى جادلتم وخاصمتم في شأن عيسى وقد عشتم زمانه فزعمتم ما زعمتموه {فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي فلم تخاصمون وتجادلون في شأن إِبراهيم ودينه وتنسبونه إِلى اليهودية أو النصرانية بدون علم؟ أفليست هذه سفاهة وحماقة؟ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي والله يعلم الحقَّ من أمر إِبراهيم وأنتم لا تعلمون ذلك، قال أبو حيان: "وهذا استدعاء لهم أن يسمعوا كما تقول لمن تخبره بشيء لا يعلمه: اسمع فإِني أعلم ما لا تعلم".
ثم أكذبهم الله تعالى في دعوى إِبراهيم فقال {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} أي ما كان إبراهيم على دين اليهودية ولا على دين النصرانية، فإِن اليهودية ملة محرّفة عن شرع موسى، وكذلك النصرانية ملة محرفة عن شرع عيسى {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} أي مائلاً عن الأديان كلها إِلى الدين القيّم {وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} أي كان مسلماً ولم يكن مشركاً، وفيه تعريض بأنهم مشركون في قولهم عزير بن الله، والمسيح بن الله، وردٌّ لدعوى المشركين أنهم على ملة إِبراهيم .
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي أحق الناس بالانتساب إِلى إِبراهيم أتباعه الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره وبعده {وَهَذَا النَّبِيُّ} أي محمد صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي المؤمنون من أمة محمد فهو الجديرون بأن يقولوا نحن على دينه لا أنتم {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} أي حافظهم وناصرهم.

إرسال تعليق