{وَإِذْ
يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا}
هذا تذكير بنعمة خاصة على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تذكير المؤمنين
بالنعمة العامة عليهم والمعنى: اذكر يا محمد حين تآمر عليك المشركون في دار الندوة
{لِيُثْبِتُوكَ} أي يحبسوك {أَوْ يَقْتُلُوكَ} أي
بالسيف ضربة رجل واحد ليتفرق دمه صلى الله عليه وسلم بين القبائل {أَوْ
يُخْرِجُوكَ} أي من مكة {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} أي
يحتالون ويتآمرون عليك يا محمد ويدبر لك ربك ما يبطل مكرهم ويفضح أمرهم
{وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} أي مكرُه تعالى أنفذُ من مكرهم وأبلغ
تأثيراً.
قال
الطبري
في روايته عن ابن عباس: إِن نفراً من أشراف قريش اجتمعوا في دار الندوة
فاعترضهم إِبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال شيخ من العرب،
سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح قالوا: أجل فادخل، فقالوا
انظروا في شأن هذا الرجل - يعني محمداً صلى الله عليه وسلم - فقال قائل: احبسوه في
وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك، فصرخ عدو الله وقال: والله ما هذا لكم
برأي، فليوشكن أن يثب أصحابه عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فقال قائل:
أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه فإِنه إِذا خرج فلن يضركم ما صنع وأين وقع، فقال
الشيخ المذكور: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه
القلوب بحديثه؟ والله لئن فعلتم لتجتمعن عليكم العرب حتى يخرجوكم من بلادكم ويقتلوا
أشرافكم، قالوا صدق فانظروا رأياً غير هذا.
فقال
أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره! قالوا: وما هو؟ قال نأخذ من كل
قبيلة غلاماً شاباً جلداً، ونعطي كل واحد سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد،
ويتفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن بني هاشم يقدرون على حرب العرب كلها فيقبلون
الدية ونستريح منه ونقطع عنا أذاه، فصرخ عدو الله إِبليس: هذا والله الرأي لا أرى
غيره، فتفرقوا على ذلك فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وأمره أن لا
يبيت في مضجعه، وأذن له بالهجرة، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة يذكره نعمته
عليه {وإِذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك، أو يخرجوك..}
الآية.
{وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا}
أي وإِذا قرئت عليهم آيات القرآن المبين {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ
نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} أي قالوا مكابرة وعناداً: قد سمعنا هذا
الكلام ولو أردنا لقلنا مثله {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}
أي ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا إِلا أكاذيب وأباطيل وحكايات الأمم السابقة
سطروها وليس كلام الله تعالى، قال أبو السعود: وهذا غاية المكابرة ونهاية
العناد، كيف لا، ولو استطاعوا لما تأخروا! فما الذي كان يمنعهم وقد تحداهم عشر
سنين؟ وقرِّعوا على العجز، ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوه، مع أنفتهم، وفرط
استنكافهم أن يغلبوا لا سيما في باب البيان؟!.
وحال
صلاتهم عند البيت
{وَإِذْ
قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ}
أي إِن كان هذا القرآن حقاً منزلاً من عندك {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً
مِنَ السَّمَاءِ} أي أنزل علينا حاصباً وحجارة من السماء كما أنزلتها
على قوم لوط {أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بعذاب مؤلم أهلكنا به،
وهذا تهكم منهم واستهزاء، قال ابن كثير: وهذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم
وعنادهم، وكان الأولى لهم أن يقولوا: اللهم إِن كان هو الحق من عندك فاهدنا له
ووفقنا لاتباعه، ولكنهم استعجلوا العقوبة والعذاب لسفههم {وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} هذا جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان
للسبب الموجب لإِمهالهم أي إِنهم مستحقون للعذاب ولكنه لا يعذبهم وأنت فيهم
إِكراماً لك يا محمد، فقد جرت سنة الله وحكمته ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانَيْها
قال ابن عباس: لم تعذب أمة قط ونبيها فيها، والمراد بالعذاب عذاب الاستئصال
{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي وما كان
الله ليعذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون الله، وهو إِشارة إلى استغفار من
بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين، قال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبي
الله صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، أما النبي فقد مضى، وأما الاستغفار فهو باق
إِلى يوم القيامة .
{وَمَا
لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}
أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم؟ وكيف لا يعذبون وهم على ما هم عليه من العتو
والضلال؟ {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي وحالهم
الصد عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وكما
اضطروه والمؤمنين إِلى الهجرة من مكة، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ}
أي ما كانوا أهلاً لولاية المسجد الحرام مع إِشراكهم {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ
إِلا الْمُتَّقُونَ} أي إِنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكن أكثرهم جهلة سفلة
فقد كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم، نصد من نشاء، وندخل من نشاء .. والغرض من
الآية بيان استحقاقهم لعذاب الاستئصال بسبب جرائمهم الشنيعة، ولكن الله رفعه عنهم
إِكراماً لرسوله عليه السلام، ولاستغفار المسلمين
المستضعفين.
{وَمَا
كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}
هذا من جملة قبائحهم أي ما كانت عبادة المشركين وصلاتهم عند البيت الحرام إِلا
تصفيراً وتصفيقاً، وكانوا يفعلونهما إِذا صلى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم،
والمعنى أنهم وضعوا مكان الصلاة والتقرب إِلى الله التصفير والتصفيق، قال ابن
عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراةٌ يصفرون ويصفقون {فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي فذوقوا عذاب القتل والأسر بسبب كفركم
وأفعالكم القبيحة، وهو إِشارة إِلى ما حصل لهم يوم بدر.
{إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ}
أي يصرفون أموالهم ويبذلونها لمنع الناس عن الدخول في دين الإِسلام، ولحرب محمد
عليه السلام، قال الطبري: لما أصيب كفار قريش يوم بدر، ورجع فلُّهم إِلى مكة
قالوا: يا معشر قريش إِن محمداً قد وتَرَكم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على
حربه لعلنا ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا فنزلت الآية {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ
تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أيفسينفقون هذه الأموال ثم تصير ندامة
عليهم، لأن أموالهم تذهب ولا يظفرون بما كانوا يطمعون من إِطفاء نور الله وإِعلاء
كلمة الكفر {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} إِخبار بالغيب أي ثم نهايتهم الهزيمة
والاندحار {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى
جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي والذين ماتوا على الكفر منهم يساقون إِلى جهنم،
فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك .
{لِيَمِيزَ
اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}
أي ليفرق الله بين جند الرحمن وجند الشيطان، ويفصل بين المؤمنين الأبرار والكفرة
الأشرار، والمراد بالخبيث والطيب الكافر والمؤمن {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ
بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} أي يجعل الكفار بعضهم فوق بعض {فَيَرْكُمَهُ
جَمِيعًا} أي يجعلهم كالركام متراكماً بعضهم فوق بعض لشدة الازدحام
{فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} أي فيقذف بهم في نار جهنم
{أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم
وأموالهم.
قتال
الكفار درء للفتنة وإذا أسلموا لهم المغفرة
ثم
دعاهم تعالى إِلى التوبة والإِنابة، وحذرهم من الإِصرار على الكفر والضلال
فقال
سبحانه
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ
سَلَفَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، إِن ينتهوا عن الكفر
ويؤمنوا بالله ويتركوا قتالك وقتال المؤمنين، يغفر لهم ما قد سلف من الذنوب والآثام
{وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنتُ الأَوَّلِينَ} أي وإِن عادوا إِلى
قتالك وتكذيبك فقد مضت سنتي في تدمير وإِهلاك المكذبين لأنبيائي، فكذلك نفعل بهم،
وهذا وعيد شديد لهم بالدمار إِن لم يقلعوا عن المكابرة
والعناد.
{وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}
أي قاتلوا يا معشر المؤمنين أعداءكم المشركين حتى لا يكون شرك ولا يعبد إلا
الله وحده، قال ابن عباس: الفتنة: الشرك، أي حتى لا يبقى مشرك على وجه
الأرض، وقال ابن جريج: حتى لا يفتن مؤمن عن دينه {وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ} أي تضمحل الأديان الباطلة ولا يبقى إِلا دين الإِسلام،
قال الألوسي: واضمحلالها إِما بهلاك أهلها جميعاً، أو برجوعهم عنها، لقوله
عليه السلام (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إِله إِلا الله) {فَإِنِ
انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي فإِن انتهوا عن الكفر
وأسلموا فإِن الله مطلع على قلوبهم، يثيبهم على توبتهم
وإِسلامهم.
{وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ}
أي وإِن لم ينتهوا عن كفرهم وأعرضوا عن الإِيمان فاعلموا يا معشر المؤمنين أن
الله ناصركم ومعينكم عليهم، فثقوا بنصرته وولايته ولا تبالوا بمعاداتهم لكم
{نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أي نعم الله أن يكون مولاكم فإِنه
لا يضيع من تولاه، ونعم النصير لكم فإِنه لا يُغلب من نصره
الله.
{وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}
أي اعلموا أيها المؤمنون أنما غنمتموه من أموال المشركين في الحرب سواء كان
قليلاً أو كثيراً {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قال الحسن: هذا مفتاح
كلام، الدنيا والآخرة لله أي أن ذكر اسم الله على جهة التبرك والتعظيم كقوله {والله
ورسوله أحق أن يرضوه} قال المفسرون: تقسم الغنيمة خمسة أقسام، فيعطى الخمس
لمن ذكر الله تعالى في هذه الآية، والباقي يوزع على الغانمين
{وَلِلرَّسُولِ} أي سهم من الخمس يعطى للرسول صلى الله عليه وسلم
{وَلِذِي الْقُرْبَى} أي قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو
المطلب {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}
أي ولهؤلاء الأصناف من اليتامى الذين مات آباؤهم، والفقراء من ذوي الحاجة،
والمنقطع في سفره من المسلمين {إِنْ كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ}
جواب الشرط محذوف تقديره: إِن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن هذا هو حكم الله في
الغنائم فامتثلوا أمره بطاعته {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي وبما
أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} أي يوم
بدر لأن الله فرق به بين الحق والباطل {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}
أي جمع المؤمنين وجمع الكافرين، والتقى فيه جند الرحمن بجند الشيطان
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر لا يعجزه شيء، ومنه نصركم
مع قلَّتكم وكثرتهم.
{إِذْ
أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا}
هذا تصوير للمعركة أي وقت كنتم يا معشر المؤمنين بجانب الوادي القريب إلى
المدينة {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} أي وأعداؤكم المشركون
بجانب الوادي الأبعد عن المدينة {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} أي
والعير التي فيها تجارة قريش في مكان أسفل من مكانكم فيما يلي ساحل البحر
{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} أي ولو
تواعدتم أنتم والمشركون على القتال لاختلفتم له ولكن الله بحكمته يسر وتمم ذلك،
قال كعب بن مالك: إِنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون
عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، قال الرازي: المعنى
لو تواعدتم أنتم وأهل مكة على القتال لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم وكثرتهم،
{وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} أي ولكن جمع
بينكم على غير ميعاد ليقضي الله ما أراد بقدرته، من إعزاز الإِسلام وأهله، وإذلال
الشرك وأهله، فكان أمراً متحققاً واقعاً لا محالة، قال أبو السعود: والغرض
من الآية أن يتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح، ليس إِلا صنعاً من الله عز وجل
خارقاً للعادات، فيزدادوا إيماناً وشكراً، وتطمئن نفوسهم بفرض الخمس
.
{لِيَهْلِكَ
مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ}
أي فعل ذلك تعالى ليكفر من كفر عن وضوح وبيان {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ
بَيِّنَةٍ} أي ويؤمن من آمن عن وضوح وبيان، فإِن وقعة بدر من الآيات
الباهرات على نصر الله لأوليائه وخذلانه لأعدائه {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ
عَلِيمٌ} أي سميع لأقوال العباد عليم بنياتهم .
{إِذْ
يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً}
أي اذكر يا محمد حين أراك الله في المنام أعداءك قلة، فأخبرت بها أصحابك حتى
قويت نفوسهم وتشجعوا على حربهم، قال مجاهد: أراه الله إِياهم في منامه
قليلاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك فكان تثبيتاً لهم {وَلَوْ
أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ} أي ولو أراك ربك عدوك كثيراً لجبن
أصحابك ولم يقدروا على حرب القوم، وانظر إِلى محاسن القرآن فإِنه لم يسند الفشل
إِليه صلى الله عليه وسلم لأنه معصوم بل قال {لَفَشِلْتُم} إِشارة إِلى
أصحابه {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} أي ولاختلفتم يا معشر
الصحابة في أمر قتالهم {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} أي ولكن الله
أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ} أي عليم بما في القلوب يعلم ما يغيّر أحوالها من الشجاعة والجبن،
والصبر والجزع .
{وَإِذْ
يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ}
هذه الرؤية باليقظة لا بالمنام أي واذكروا يا معشر المؤمنين حين التقيتم في
المعركة فقلل الله عدوكم في أعينكم لتزداد جرأتكم عليهم، وقلَّلكم في أعينهم حتى لا
يستعدوا ويتأهبوا لكم، قال ابن مسعود: لقد قُلِّلُوا في أعيننا يوم بدر حتى
قلت لرجل: أتراهم يكونون مائة؟ وهذا قبل التحام الحرب فلما التحم القتال كثر الله
المؤمنين في أعين الكفار فبُهتوا وهابوا، وفُلَّت شوكتهم، ورأوا ما لم يكن في
الحسبان، وهذا من عظائم آيات الله في تلك الغزوة {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا
كَانَ مَفْعُولاً} أي فعل ذلك فجرَّأ المؤمنين على الكافرين، والكافرين
على المؤمنين، لتقع الحرب ويلتحم القتال، وينصر الله جنده ويهزم الباطل وحزبه،
وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الأُمُورُ} أي مصير الأمور كلها إِلى الله يصرّفها كيف يريد، لا معقب لحكمه وهو
الحكيم المجيد.
{يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ ءامنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}
هذا إِرشاد إِلى سبيل النصر في مبارزة الأعداء أي إِذا لقيتم جماعة من الكفرة
فاثبتوا لقتالهم ولا تنهزموا {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} أي أكثروا من ذكر الله بألسنتكم لتستمطروا نصره وعونه
وتفوزوا بالظفر عليهم {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي في جميع
أقوالكم وأفعالكم ولا تخالفوا أمر الله ورسوله في شيء {وَلا تَنَازَعُوا
فَتَفْشَلُوا} أي ولا تختلفوا فيما بينكم فتضعفوا وتجبنوا عن لقاء عدوكم
{وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي تذهب قوتكم وبأسكم، ويدخلكم الوهن والخور
{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} أي واصبروا على شدائد الحرب
وأهوالها، فإِن الله مع الصابرين بالنصر والعون.
{وَلا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ
النَّاسِ}
أي لا تكونوا ككفار قريش حين خرجوا لبدر عتواً وتكبراً، وطلباً للفخر والثناء،
والآية إِشارة إِلى قول أبي جهل: والله لا نرجع حتى نَرد بدراً، فنشرب فيها الخمور
وننحر الجزور، وتعزف علينا القيان -المغنيات - وتسمع بنا العرب، فلا يزالون
يهابوننا أبداً، قال الطبري: فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا، وناحت عليهم
النوائح مكان القيان {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي ويمنعون الناس
عن الدخول في الإِسلام {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي وهو سبحانه
عالم بجميع ذلك وسيجازيهم عليه.
{وَإِذْ
زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}
أي واذكر وقت أن حسَّن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة من الشرك وعبادة الأصنام،
وخروجهم لحرب الرسول عليه السلام {وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنَ
النَّاسِ} أي لن يغلبكم محمد وأصحابه {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}
أي مجير ومعين لكم.
{فَلَمَّا
تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}
أي فلما تلاقى الفريقان ولى الشيطان هارباً مولياً الأدبار {وَقَالَ إِنِّي
بَرِيءٌ مِنْكُمْ} أي بريء من عهد جواركم، وهذا مبالغة في الخذلان لهم
{إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} أي أرى الملائكة نازلين لنصرة
المؤمنين وأنتم لا ترون ذلك وفي الحديث (ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا
أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، إِلا ما رأى يوم بدر، فإِنه رأى جبريل
يَزَعُ الملائكة) أي يصفها للحرب {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ
الْعِقَابِ} أي إِني أخاف الله أن يعذبني لشدة عقابه.
قال
ابن عباس:
جاء إِبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة "سراقة بن مالك" فقال
الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإِني جار لكم، فلما اصطف الناس أخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها وجوه المشركين، فولوا
مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إِلى إِبليس، فلما رآه - وكانت يده في يد رجلٍ من
المشركين - انتزع يده ثم ولى مدبراً وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا
جار؟ فقال: إِني أرى ما لا ترون إِني أخاف الله، وكذب عدو الله فإِنه علم أنه لا
قوة له ولا منعة وذلك حين رأى الملائكة .
{إِذْ
يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}
أي قال أهل النفاق الذين أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر لضعف اعتقادهم بالله
{غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمُ} أي اغتر المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم
فيما لا طاقة لهم به قال تعالى في جوابهم {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي ومن يعتمد على الله ويثق به فإِن الله
ناصره لأن الله عزيز أي غالب لا يخذل من استجار به، حكيم في أفعاله
وصنعه.
{وَلَوْ
تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ}
أي لو رأيت وشاهدت أيها المخاطب أو أيها السامع حالتهم ببدر حين تقبض ملائكة
العذاب أرواح الكفرة المجرمين، وجواب {لَوْ} محذوف للتهويل أي لرأيت أمراً
فظيعاً وشأناً هائلاً، قال أبو حيان: وحذف جواب لو جائز بليغ حذفه في مثل
هذا لأنه يدل على التهويل والتعظيم أي لرأيت أمراً فظيعاً لا يكاد يوصف
{يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أي تضربهم الملائكة من أمامهم
وخلفهم، على وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}
أي ويقولون لهم: ذوقوا يا معشر الفجرة عذاب النار المحرق، وهذا بشارة لهم بعذاب
الآخرة وقيل: كانت معهم أسواط من نار يضربونهم بها فتشتعل جراحاتهم ناراً
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي ذلك العذاب بسبب ما كسبتم
من الكفر والآثام {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} أي وأنه
تعالى عادل ليس بذي ظلم لأحد من العباد حتى يعذبه بغير ذنب، وصيغة {ظَلاَّم}
ليست للمبالغة وإِنما هي للنسبة أي ليس منسوباً إِلى الظلم فقد انتفى أصل الظلم عنه
تعالى فتدبره .
{كَدَأْبِ
ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}
أي دأب هؤلاء الكفرة في الإِجرام يعني عملهم وطريقهم الذي دأبوا فيه كعمل وطريق
آل فرعون ومن تقدمهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود في العناد والتكذيب والكفر
والإِجرام {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} أي جحدوا ما جاءهم به الرسل
من عند الله {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكهم بكفرهم
وتكذيبهم {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي قوي البطش شديد
العذاب، لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب .
{ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى
قَوْمٍ}
أي ذلك الذي حل بهم من العذاب بسبب أن الله عادل في حكمه لا يغير نعمة أنعمها
على أحدٍ إِلا بسبب ذنبٍ ارتكبه، وأنه لا يبدل النعمة بالنقمة {حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} أي حتى يبدلوا نعمة الله بالكفر والعصيان،
كتبديل كفار قريش نعمة الله فقد أنعم الله على قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم
فكفروا به وكذبوه، فنقله الله إِلى المدينة وحل بالمشركين العقاب
{وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي وأنه سبحانه سميع لما يقولون عليم
بما يفعلون {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} كرره لزيادة التشنيع والتوبيخ على إِجرامهم أي شأن
هؤلاء وحالهم كشأن وحال المكذبين السابقين حيث غيّروا حالهم فغيّر الله نعمته عليهم
{فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكناهم بسبب ذنوبهم بعضهم
بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالحجارة، وبعضهم بالغرق ولهذا قال
{وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ} أي أغرقنا فرعون وقومه معه
{وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} أي وكل من الفرق المكذبة كانوا ظالمين لأنفسهم
بالكفر والمعاصي حيث عرَّضوها للعذاب.
{إِنَّ
شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ}
أي شر من يدب على وجه الأرض في علم الله وحكمه {الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ
لا يُؤْمِنُونَ} أي الذين أصروا على الكفر ورسخوا فيه فهم لا يتوقع منهم إِيمان
لذلك، قال ابن عباس: نزلت في بني قريظة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف
وأصحابه عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يحاربوه فنقضوا
العهد.
{الَّذِينَ
عَاهَدْتَ مِنْهُمْ}
أي الذين عاهدتهم يا محمد على ألا يعينوا المشركين {ثُمَّ يَنقُضُونَ
عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} أي يستمرون على النقض مرة بعد مرة
{وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} أي لا يتقون الله في نقض العهد قال المفسرون: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاهد يهود بني قريظة ألا يحاربوه ولا يعاونوا عليه
المشركين، فنقضوا العهد وأعانوا عليه كفار مكة بالسلاح يوم بدر، ثم قالوا: نسينا
وأخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوا العهد ومالؤوا الكفار يوم الخندق {فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} أي فإِن تظفر بهم في الحرب {فَشَرِّدْ
بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} أي فاقتلهم ونكِّل بهم تنكيلاً شديداً يشرد
غيرهم من الكفرة المجرمين {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون بما
شاهدوا فيرتدعوا والمعنى: اجعلهم عبرة لغيرهم حتى لا يبقى لهم قوة على
محاربتك.
{وَإِمَّا
تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً}
أي وإِن أحسست يا محمد من قوم معاهدين خيانة للعهد ونكثاً بأمارات ظاهرة
{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} أي اطرح إِليهم عهدهم على بينة
ووضوح من الأمر، قال النحاس: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في
الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه والمعنى: وإِما تخافن من قوم - بينك وبينهم
عهد - خيانة فانبذ إِليهم العهد أي قل لهم قد نبذت إِليكم عهدكم وأنا مقاتلكم،
ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك
فيكون ذلك خيانة وغدراً {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} وهذا
كالتعليل للأمر بنبذ عهد أي لا يحب من ليس عنده وفاء ولا عهد
.
{وَلا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا}
أي لا يظنن هؤلاء الكفار الذين أفلتوا يوم بدر من القتل أنهم فاتونا فلا نقدر
عليهم، بل هم في قبضتنا وتحت مشيئتنا وقهرنا {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ}
كلام مستأنف أي إِنهم لا يُعجزون ربهم، بل هو قادر على الانتقام منهم في كل لحظة،
لا يعجزه أحد في الأرض ولا في السماء.
{وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}
أي أعدوا لقتال أعدائكم جميع أنواع القوة: المادية، والمعنوية، قال
الشهاب: وإِنما ذكر القوة هنا لأنه لم يكن في بدر استعداد تام، فنُبهوا على أن
النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}
أي الخيل التي تربط في سبيل الله {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ
وَعَدُوَّكُمْ} أي تُخيفون بتلك القوة الكفار أعداء الله وأعداءكم
{وَءاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} أي وترهبون به آخرين غيرهم، قال ابن
زيد: هم المنافقون، وقال مجاهد: هم اليهود من بني قريظة والأول أصح
لقوله {لا تَعْلَمُونهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} أي لا تعلمون ما هم
عليه من النفاق ولكن الله يعلمهم {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ} أي وما تنفقوا في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات {يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ} أي تُعْطون جزاءه وافياً كاملاً يوم القيامة {وَأَنْتُمْ
لا تُظْلَمُونَ} أي لا تنقصون من ذلك الأجر شيئاً.
{وَإِنْ
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}
أي إِن مالوا إِلى الصلح فمل أنت إلى المهادنة وأجبهم إِلى ما طلبوا إِن كان
فيه مصلحة {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي فوض الأمر إِلى الله ليكون
عوناً لك على السلامة {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي هو سبحانه
السميع لأقوالهم العليم بنياتهم.
{وَإِنْ
يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ}
أي وإِن أرادوا بالصلح خداعك ليستعدوا لك {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ}
أي فإِن الله يكفيك وهو حسبك، ثم ذكره بنعمته عليه فقال {هُوَ الَّذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} أي قواك وأعانك بنصره وشد أزرك
بالمؤمنين، قال ابن عباس: يعني الأنصار {وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ} أي جمع بين قلوبهم على ما كان بينهم من العداوة والبغضاء،
فأبدلهم بالعداوة حباً، وبالتباعد قرباً، قال القرطبي: وكان تأليف القلوب مع
العصبيّة الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، لأن أحدهم
كان يُلطم اللطمة فيقاتل عليها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بينهم
بالإِيمان، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي لو أنفقت في
إِصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال ما قدرت على تأليف قلوبهم واجتماعها على
محبة بعضهم بعضاً {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} أي ولكنه
سبحانه بقدرته البالغة جمع بينهم ووفق، فإِنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء
{إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب على أمره لا يفعل شيئاً إِلا عن حكمة
.
{يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ}
أي الله وحده كافيك، وكافي أتباعك، فلا تحتاجون معه إِلى أحد، وقال الحسن
البصري: المعنى حسبك أي كافيك الله والمؤمنون {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ
حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} أي حض المؤمنين ورغبهم بكل
جهدك على قتال المشركين {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ} قال أبو السعود: هذا وعد كريم منه تعالى بغلبة كل جماعة من
المؤمنين على عشرة أمثالهم والمعنى: إِن يوجد منكم يا معشر المؤمنين عشرون صابرون
على شدائد الحرب يغلبوا مائتين من عدوهم، بعون الله وتأييده {وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وإِن
يوجد منكم مائة - بشرط الصبر عند اللقاء - تغلب ألفاً من الكفار بمشيئة الله
{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} الباء سببية أي سبب ذلك أنّ الكفار قوم
جهلة لا يفقهون حكمة الله، ولا يعرفون طريق النصر وسببه، فهم يقاتلون على غير
احتساب ولا طلب ثواب، فلذلك يُغلبون، قال ابن عباس: كان ثبات الواحد للعشرة
فرضاً، ثم لما شق ذلك عليهم نسخ وأصبح ثبات الواحد للاثنين فرضاً
.
{الآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ}
أي رفع عنكم ما فيه مشقة عليكم {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}
أي وعلم ضعفكم فرحمكم في أمر القتال {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} أي إِن يوجد منكم مائة صابرة على
الشدائد يتغلبوا على مائتين من الكفرة {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ
يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} أي وإِن يوجد منكم ألف صابرون في ساحة اللقاء،
يتغلبوا على ألفين من الأعداء {بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بتيسيره وتسهيله
{وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} هذا ترغيب في الثبات وتبشير بالنصر أي الله
معهم بالحفظ والرعاية والنصرة، ومن كان الله معه فهو الغالب.
{مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الأَرْضِ}
عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أخذ الفداء والمعنى: لا ينبغي لنبي
من الأنبياء أن يأخذ الفداء من الأسرى إِلا بعد أن يكثر القتل ويبالغ فيه
{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} أي تريدون أيها المؤمنون بأخذ الفداء
حطام الدنيا ومتاعها الزائل؟ {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} أي يريد
لكم الباقي الدائم، وهو ثواب الآخرة، بإِعزاز دينه وقتل أعدائه {وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي عزيز في ملكه لا يقهر ولا يُغلب، حكيم في تدبير
مصالح العباد .
{لَوْلا
كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}
أي لولا حكم في الأزل من الله سابق وهو ألا يعذب المخطئ في اجتهاده
{لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي لأصابكم في أخذ الفداء
من الأسرى عذاب عظيم، وروي أنها لما نزلت قال عليه السلام (لو نزل العذاب لما نجا
منه غير عمر) وذلك لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو وحده الذي أشار على النبي صلى
الله عليه وسلم بقتل الأسرى بخلاف رأي غيره من الصحابة فنزل الوحي مؤيداً لرأي عمر
رضي الله عنه {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا} أي كلوا
يا معشر المجاهدين مما أصبتموه من أعدائكم من الغنائم في الحرب حال كونه حلالاً أي
محللاً لكم {طَيِّبًا} أي من أطيب المكاسب لأنه ثمرة جهادكم، وفي الصحيح
(وجعل رزقي تحت ظل رمحي) {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي خافوا الله في
مخالفة أمره ونهيه {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة لمن
تاب، رحيم بعباده حيث أباح لهم الغنائم .
{يَاأَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى}
أي قل لهؤلاء الذين وقعوا في الأسر من الأعداء، والمراد بهم أسرى بدر {إِنْ
يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ
مِنْكُمْ} أي يعطكم أفضل مما أخذ منكم من الفداء {وَيَغْفِرْ
لَكُمْ} أي يمحو عنكم ما سلف من الذنوب {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي
واسع المغفرة، عظيم الرحمة لمن تاب وأناب، قال البيضاوي: نزلت في العباس رضي
الله عنه حين كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه وابني أخويه "عقيل" و
"نوفل" فقال يا محمد: تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت، فقال: أين الذهب الذي دفعته
إِلى أم الفضل وقت خروجك وقلت لها: إِني لا أدري ما يصيبني في جهتي هذه، فإِن حدث
بي حدث فهو لك ولعيالك!! فقال العباس: ما يدريك؟ قال: أخبرني به ربي تعالى، قال:
فأشهد أنك صادق، وأن لا إِله إِلا الله وأنك رسوله، والله لم يطلع عليه أحد، ولقد
دفعته إِليها في سواد الليل!! قال العباس: فأبدلني الله خيراً من ذلك، وأعطاني زمزم
ما أحب أن لي بها جميع أموال مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي - يعني الموعود -
بقوله تعالى {ويغفر لكم} .
{وَإِنْ
يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ}
وإِن كان هؤلاء الأسرى يريدون خيانتك يا محمد بما أظهروا من القول ودعوى الإِيمان
{فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} أي فقد خانوا الله تعالى قبل
هذه الغزوة غزوة بدر {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي فقواك ونصرك الله
عليهم وجعلك تتمكن من رقابهم، فإِن عادوا إِلى الخيانة فسيمكنك منهم أيضاً
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بجميع ما يجري، يفعل ما تقضي به حكمته
البالغة.
{إِنَّ
الَّذِينَ ءامنوا}
أي صدقوا الله ورسوله {وَهَاجَرُوا} أي تركوا وهجروا الديار
والأوطان حباً في الله ورسوله {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ} أي جاهدوا الأعداء بالأموال والأنفس لإِعزاز دين الله،
وهم المهاجرون {وَالَّذِينَ ءاوَوا وَنَصَرُوا} أي آووا المهاجرين في
ديارهم ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الأنصار {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي أولئك الموصوفون بالصفات الفاضلة بعضهم أولياء بعض في
النصرة والإِرث، ولهذا آخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار
.
{وَالَّذِينَ
ءامنوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا}
أي ءامنوا وأقاموا بمكة فلم يهاجروا إِلى المدينة {مَا لَكُمْ مِنْ
وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} أي لا إِرث بينكم وبينهم ولا
ولاية حتى يهاجروا من بلد الكفر{وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ
فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي وإِن طلبوا منكم النصرة لأجل إِعزاز الدين،
فعليكم أن تنصروهم على أعدائهم لأنهم إِخوانكم {إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي إِلا إِذا استنصروكم على من بينكم وبينهم عهد
ومهادنة فلا تعينوهم عليهم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي رقيب
على أعمالكم فلا تخالفوا أمره .. ذكر تعالى المؤمنين وقسمهم إِلى ثلاثة أقسام:
المهاجرين، الأنصار، الذين لم يهاجروا، فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصل الإِسلام وقد
هجروا الديار والأوطان ابتغاء رضوان الله، وثنى بالأنصار لأنهم نصروا الله ورسوله
وجاهدوا بالنفس والمال، وجعل بين المهاجرين والأنصار الولاية والنصرة، ثم ذكر حكم
المؤمنين الذين لم يهاجروا وبيّن أنهم حرموا الولاية حتى يهاجروا في سبيل الله،
وبعد ذكر هذه الأقسام الثلاثة ذكر حكم الكفار فقال .
{وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
أي هم في الكفر والضلال ملة واحدة فلا يتولاهم إِلا من كان منهم {إِلا
تَفْعَلُوهُ} أي وإِن لم تفعلوا ما أمرتم به من تولي المؤمنين وقطع
الكفار {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} أي تحصل في الأرض
فتنة عظيمة ومفسدة كبيرة، لأنه يترتب على ذلك قوة الكفار وضعف المسلمين، ثم عاد
بالذكر والثناء على المهاجرين والأنصار فقال {وَالَّذِينَ ءامنوا وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهم المهاجرون أصحاب السبق إِلى
الإِسلام {وَالَّذِينَ ءاوَوا وَنَصَرُوا} وهم الأنصار أصحاب
الإِيواء والإِيثار {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} أي
هؤلاء هم الكاملون في الإِيمان، المتحققون في مراتب الإِحسان {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهم مغفرة لذنوبهم، ورزق كريم في جنات النعيم، قال
المفسرون: ليس في هذه الآيات تكرار، فالآيات السابقة تضمنت الولاية والنصرة بين
المؤمنين، وهذه تضمنت الثناء والتشريف، ومآل حال أولئك الأبرار من المغفرة والرزق
الكريم في دار النعيم.
{وَالَّذِينَ
ءامنوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ
مِنْكُمْ}
هذا قسم رابع وهم المؤمنون الذين هاجروا بعد الهجرة الأولى فحكمهم حكم المؤمنين
السابقين في الثواب والأجر {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي أصحاب القرابات بعضهم أحق بإِرث بعض من الأجانب
في حكم الله وشرعه وقال العلماء: هذه ناسخة للإِرث بالحلف والإِخاء {إِنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي أحاط بكل شيء علماً، فكل ما شرعه الله حكمة
وصواب وصلاح، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهو ختم للسورة في غاية
البراعة.
إرسال تعليق