adsens

[احاديث نبوية ][horizontal][recent][5]


      {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(25)لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(26)وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(27)}

      {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} أي يدعو إلى الجنة دار السرور والإِقامة {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي يوصل من شاء هدايته إلى الطريق المستقيم وهو دين الإِسلام {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} أي الذين أحسنوا بالإِيمان والعمل الصالح لهم الحسنى أي الجنة {وَزِيَادَةٌ} وهي النظر إلى وجه الله الكريم .
{وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} أي ولا يغشى وجوههم غبار ولا سواد كما يعتري وجوه أهل النار {وَلا ذِلَّةٌ} أي هوانٌ وصغار {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا وزخارفها {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} أي والذين عملوا السيئات في الدنيا فعصوا الله وكفروا فسيجزون على السيئةِ بمثلها لا يزادون على ذلك، فالحسناتُ مضاعفة بفضل الله، والسيئات جزاؤها بالمثل عدلاً منه تعالى {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي تغشاهم ذلة وهوان {مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي ليس لهم أحد يعصمهم أو يمنعهم من سخط الله تعالى وعقابه {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} أي كأنما أُلبست وجوههم من فرط السواد والظلمة قطعاً من ظلام الليل {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي لا يخرجون منها أبداً.


      {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ(28)فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ(29)هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(30)}

      {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي نجمع الفريقين للحساب: المؤمنين والكافرين ثم نقول للذين أشركوا بالله {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} أي الزموا مكانكم أنتم والذين عبدتموهم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل الله بكم {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي ففرقنا وميزنا بينهم وبين المؤمنين كقوله {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} .
{وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} أي تبرأ منهم الشركاء وهم الأصنام الذين عبدوهم من دون الله، قال مجاهد: يُنطق الله الأوثان فتقول: ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون وما أمرناكم بعبادتنا كقوله {إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي تقول الشركاء للمشركين يوم القيامة: حسبنا الله شاهداً بيننا وبينكم {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} أي ما كنا عن عبادتكم لنا إلا غافلين، لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل، لأنا كنا جماداً لا روح فينا .
{هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} أي في ذلك الوقت تُختبر كلُّ نفسٍ بما قدمت من خير أو شر، وتنال جزاء ما عملت {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} أي ردّوا إلى الله تعالى المتولي جزاءهم بالعدل والقسط {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي ضاع وذهب عنهم ما كانوا يزعمونه من أن الأوثان تشفع لهم، وفي الآية تبكيتٌ شديدٌ للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يُغني عنهم شيئاً.


      {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ(31)فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ(32)كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(33)}

      {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} في هذه الآيات الأدلةُ على وحدانية الله وربوبيته أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من ينزل لكم الغيث والقطر، ويخرج لكم الزروع والثمار؟ {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} أي من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم، التي تسمعون وتبصرون بها؟ ومن يستطيع أن يردها لكم إذا أراد الله أن يسلبكموها؟ كقوله {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} الآية {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ}؟ أي من يخرج الإِنسان من النطفة، والطير من البيضة، والسنبلة من الحبة، والنبات من الأرض، والمؤمن من الكافر؟ {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} أي ومن يدبّر أمر الخلائق، ويصرِّف شؤون الكائنات؟ {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أي فسيقرون بأن فاعل ذلك كلِّه هو الله ربُّ العالمين، إذ لا مجال للمكابرة والعناد لغاية وضوحه {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} أي قل لهم يا محمد أفلا تخافون عقابه ونقمته بإِشراككم وعبادتكم غير الله؟
{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء الجليلة هو ربكم الحق، الثابتة ربوبيتُه ووحدانيتُه بالبراهين القاطعة {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} استفهام إنكاري أي ليس بعد الحق إلا الضلال، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي فكيف تُصرفون عن عبادة الله، إلى عبادة ما لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت؟ {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} أي كذلك وجب قضاء الله وحكمه السابق {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} أي على الذين خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي لأنهم لا يصدقون بوحدانية الله ورسالة نبيّه، فلذلك حقت عليهم كلمة العذاب لشقاوتهم وضلالتهم.


      {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(34)قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(35)وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(36)}

      {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي قل لهم يا محمد على جهة التوبيخ والتقريع: هل من الأوثان والأصنام من ينشىء الخلق من العدم ثم يفنيه، ثم يعيده ويحييه؟ قال الطبري: ولما كانوا لا يقدرون على دعوى ذلك، وفيه الحجة القاطعة، والدلالة الواضحة على أنهم في دعوى الأرباب كاذبون مفترون، أُمر صلى الله عليه وسلم بالجواب {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي قل لهم يا محمد: الله وحده هو الذي يحيي ويميت، ويبدأ ويُعيد، وليس أحدٌ من هؤلاء الآلهة المزعومة يفعل ذلك {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تنقلبون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل؟
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} توبيخ آخر في صورة استفهام، أي قل لهؤلاء المشركين هل من هذه الآلهة التي تعبدونها من يرشد ضالاً؟ أو يهدي حائراً؟ أو يدل على طريق الحق وسبيل الاستقامة؟ {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} أي فقل لهم: إن عجزتْ آلهتكم عن ذلك فالله هو القادر على هداية الضالّ، وإنارة السبيل، وبيان الحق { أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى} أي أفمن يرشد إِلى الحق وهو الله سبحانه وتعالى أحقُّ بالاتباع أم هذه الأصنام التي لا تهدي أحداً؟ ولا تستطيع هداية نفسها فضلاً عن هداية غيرها؟ { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي ما لكم أيها المشركون تسوّون بين الأصنام وبين ربّ الأرباب، وتحكمون بهذا الباطل الصُراح؟ وهو استفهام معناه التعجب والإِنكار.
ثم بيّن تعالى فساد نحلتهم بعد أن أفحمهم بالبراهين النيرة التي توجب التوحيد وتبطل التقليد فقال {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا} أي وما يتبعون في اعتقادهم ألوهية الأصنام، إلا اعتقاداً غير مستند لدليل أو برهان، بل مجرد أوهام باطلة، وخرافات فاسدة {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} أي ومثل هذا الاعتقاد المبني على الأوهام والخيالات، ظنٌ كاذب لا يغني من اليقين شيئاً، فليس الظنُّ كاليقين {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي عالمٌ بما هم عليه من الكفر والتكذيب، وهو وعيدٌ على اتباعهم للظنّ، وإعراضهم عن البراهين.

بيان إعجاز القرءان

      {وَمَا كَانَ هَذَا القرءان أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(37)أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(38)بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(39)}

      ثم بيَّن تعالى صدق النبوة والوحي فقال {وَمَا كَانَ هَذَا القرءان أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي لا يصح ولا يعقل، ولا يستقيم لذي عقل سليم، أن يزعم أن هذا القرءان مفترى مكذوب على الله، لأنه فوق طاقة البشر {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ولكنّه جاء مصدقاً لما قبله من الكتب السماوية كالتوراة والإِنجيل {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} أي وفيه تفصيلُ وتبيينُ الشرائع والعقائد والأحكام {لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي لا شك في أنه تنزيل ربّ العالمين .
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي بل أيقولون اختلق محمد هذا القرءان من قبل نفسه؟ وهو استفهام معناه التقريع {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} أي إن كان كما زعمتم فجيئوا بسورةٍ مثل هذا القرءان، وهو تعجيزٌ لهم وإقامة حجة عليهم {وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ادعوا من دونه تعالى من استطعتم من خلقه، من الإِنس والجن للاستعانة بهم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي إن كنتم صادقين في أن محمداً افتراه، قال الطبري: والمراد أنكم إن لم تفعلوا فلا شك أنكم كذبة، لأن محمداً لن يَعْدوَ أن يكون بشراً مثلكم، فإذا عجز جميع الخلق أن يأتوا بسورةٍ مثلِه، فالواحد منهم أن يأتي بجميعه أعجز.
قال تعالى {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} أي بل كذب هؤلاء المشركون بالقرآن العظيم، وسارعوا إلى الطعن به قبل أن يفقهوه ويتدبروا ما فيه، والناس دائماً أعداء لما جهلوا {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي والحال لم يأتهم بعد عاقبة ما فيه من الوعيد {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي مثل تكذيب هؤلاء كذبت الأمم الخالية قبلهم {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي فانظر يا محمد كيف أخذهم الله بالعذاب والهلاك بسبب ظلمهم وبغيهم، فكما فعل بأولئك يفعل بهؤلاء الظالمين الطاغين.


      {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ(40)وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(41)وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ(42)وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ(43)إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(44)}

      {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} أي ومن هؤلاء الذين بعثتَ إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرءان ويتبعك وينتفع بما أُرسلتَ به {وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} بل يموت على ذلك ويُبعث عليه {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله .
{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي وإن كذَّبك هؤلاء المشركون فقل لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقاً كان أو باطلاً {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} أي يستمعون إليك إذا قرأت القرءان وقلوبهم لا تعي شيئاً مما تقرؤه وتتلوه {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ}؟ أي أنت يا محمد لا تقدر أن تسمع من سلبه الله السمع {وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} أي ولو كانوا من الصمم لا يعقلون ولا يتدبرون؟ قال ابن كثير: المعنى ومن هؤلاء من يسمعون كلامك الحسن، والقرآن النافع، ولكنْ ليس أمر هدايتهم إليك، فكما لا تقدر على إسماع الأصم فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله .
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} أي ومن هؤلاء من ينظر إليك ويعاين دلائل نبوتك الواضحة، ولكنّهم عميٌ لا ينتفعون بما رأوا، أفأنت يا محمد تقدر على هدايتهم ولو كانوا عُمي القلوب؟ شبّههم بالعُمْي لتعاميهم عن الحق، قال القرطبي: والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم أي كما لا تقدر أن تخلق للأعمى بصراً يهتدي به، فكذلك لا تقدر أن توفّق هؤلاء للإِيمان {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} أي لا يعاقب أحداً بدون ذنب، ولا يفعل بخلقه ما لا يستحقون {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكنَّهم يظلمون أنفسهم بالكفر والمعاصي ومخالفة أمر الله، قال الطبري: وهذا إعلامٌ من الله تعالى بأنه لم يسلب هؤلاء الإِيمان ابتداءً منه بغير جرم سلف منهم، وإنما سلبهم ذلك لذنوب اكتسبوها، فحقَّ عليهم أن يطبع الله على قلوبهم.



      {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ } أي اذكر يوم نجمع هؤلاء المشركين للحساب كأنهم ما أقاموا في الدنيا إلاّ ساعة من النهار، لهول ما يرون من الأهوال {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أي يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا في الدنيا، وهو تعارف توبيخ وافتضاح، يقول الواحد للآخر: أنتَ أغويتني وأضللتني، وليس تعارف محبة ومودّة {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي لقد خسر حقاً هؤلاء الظالمون الذين كذبوا بالبعث والنشور، وما كانوا موفَّقين للخير في هذه الحياة.


      {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ(46)وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(47)وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(48)قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ(49)قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ(50)أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ(51)ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ(52)وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ(53)وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(54)أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(55)هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(56)}

      {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي إن أريناك يا محمد بعض عذابهم في الدنيا لتقرَّ عينك منهم فذاك، وإن توفيناك قبل ذلك فمرجعهم إلينا في الآخرة، ولا بدَّ من الجزاء إن عاجلاً أو آجلاً {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} أي هو سبحانه شاهدٌ على أفعالهم وإجرامهم ومعاقبتهم على ما اقترفوا.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} أي ولكل أمة من الأمم رسولٌ أُرسل لهدايتهم {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} قال مجاهد: يعني يوم القيامة قُضي بينهم بالعدل، قال ابن كثير: فكلُّ أمة تُعرض على الله بحضرة رسولها، وكتابُ أعمالها من خير وشر شاهدٌ عليها، وحفظتُهم من الملائكة شهود أيضاً {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يُعذبون بغير ذنب.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي ويقول كفار مكة متى هذا العذاب الذي تعدنا به إن كنت صادقاً؟ وهذا القول منهم على سبيل السخرية والاستهزاء {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي لا أستطيع أن أدفع عن نفسي ضراً، ولا أجلب إليها نفعاً، وليس ذلك لي ولغيري {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} أي إلا ما شاء الله أن أملكه وأقدر عليه، فكيف أقدر أن أملك ما استعجلتم به من العذاب! {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي لكل أمة وقتٌ معلوم لهلاكهم وعذابهم {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} أي فإذا جاء أجل هلاكهم فلا يمكنهم أن يستأخروا عنه ساعة فيمهلون ويؤخرون، ولا يستقدمون قبل ذلك لأن قضاء الله واقع في حينه .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} أي قل لأولئك المكذبين أخبروني إن جاءكم عذاب الله ليلاً أو نهاراً فما نفعكم فيه؟ {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} استفهام معناه التهويل والتعظيم أي ما أعظم ما يستعجلون به؟ كما يقال لمن يطلب أمراً وخيماً: ماذا تجني على نفسك .
{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} في الكلام حذفٌ تقديره: أتؤخرون إلى أن تؤمنوا بها وإذا وقع العذاب وعاينتموه فما فائدة الإِيمان وما نفعكم فيه، إذا كان الإِيمان لا ينفع حينذاك؟ قال الطبري: المعنى أهنالك إذا وقع عذاب الله بكم أيها المشركون صدّقتم به في حالٍ لا ينفعكم فيه التصديق {آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أي يقال لكم أيها المجرمون: الآن تؤمنون وقد كنتم قبله تهزءون وتسخرون وتستعجلون نزول العذاب؟ {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} أي ذوقوا العذاب الدائم الذي لا زوال له ولا فناء {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أي هل تُجزون إلا جزاء كفركم وتكذيبكم؟
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} أي ويستخبرونك يا محمد فيقولون: أحقٌ ما وعدتنا به من العذاب والبعث؟ {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} أي قل نعم والله إنه كائن لا شك فيه {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي لستم بمعجزين الله بهربٍ أو امتناع من العذاب بل أنتم في قبضته وسلطانه {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ} أي لو أن لكل نفسٍ كافرةٍ ما في الدنيا جميعاً من خزائنها وأموالها، ومنافعها قاطبة {لافْتَدَتْ بِهِ} أي لدفعته فدية لها من عذاب الله ولكنْ هيهات أن يُقبل كما قال تعالى {فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهباً ولو افتدى به} ثم قال تعالى مخبراً عن أسفهم وندمهم {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ} أي أخفى هؤلاء الظلمة الندم لما عاينوا العذاب، قال الإِمام الجلال: أي أخفاها رؤساؤهم عن الضعفاء الذين أضلوهم مخافة التعيير {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي قُضي بين الخلائق بالعدل {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يظلمون من أعمالهم شيئاً، ولا يُعاقبون إلا بجريرتهم.
{أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} "أَلاَ" كلمة تنبيه للسامع تزاد في أول الكلام أي انتبهوا لما أقول لكم فكل ما في السماوات والأرض ملكٌ لله، لا شيء فيها لأحدٍ سواه، هو الخالق وهو المالك {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي إن وعده بالبعث والجزاء حقٌ كائن لا محالة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ولكنَّ أكثر الناس لقصور عقولهم، واستيلاء الغفلة عليهم، لا يعلمون ذلك فيقولون ما يقولون {هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي هو سبحانه المحيي والمميتُ، وإليه مرجعكم في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.

خصائص القرءان الكريم


      {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} خطابٌ لجميع البشر أي قد جاءكم هذا القرءان العظيم الذي هو موعظةٌ لكم من خالقكم {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي يشفي ما فيها من الشك والجهل {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي وهداية من الضلال ورحمة لأهل الإِيمان قال الزمخشري: المعنى قد جاءكم كتابٌ جامعٌ لهذه الفوائد العظيمة من الموعظة، والتنبيه على التوحيد، ودواء الصدور من العقائد الفاسدة، ودعاء إلى الحق، ورحمة لمن آمن به منكم {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} قال ابن عباس: فضل الله القرءان، ورحمته الإِسلام والمعنى ليفرحوا بهذا الذي جاءهم من الله، من القرءان والإِسلام، فإِنه أولى ما يفرحون به {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي هو خيرٌ مما يجمعون من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية، والنعيم الزائل، فإِن الدنيا بما فيها لا تساوي جناح بعوضة كما ورد به الحديث الشريف.



      {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} خطابٌ لكفار العرب والمعنى: أخبروني أيها المشركون عما خلقه الله لكم من الرزق الحلال {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} أي فحرَّمتم بعضه وحلَّلتم بعضه كالبحيرة، والسائبة، والميتة، قال ابن عباس: نزلت إنكاراً على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب، والحرث والأنعام { قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} أي قل لهم يا محمد أخبروني: أحصل إذنٌ من الله لكم بالتحليل والتحريم، فأنتم فيه ممتثلون لأمره، أم هو مجرد افتراء وبهتان على ذي العزة والجلال؟
{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي وما ظنُّ هؤلاء الذين يتخرصون على الله الكذب فيحلون ويحرمون من تلقاء أنفسهم، أيحسبون أن الله يصفح عنهم ويغفر يوم القيامة؟ كلاَّ بل سيصليهم سعيراً، وهو وعيدٌ شديد للمفترين {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أي لذو إنعام عظيم على العباد حيث رحمهم بترك معاجلة العذاب، وبالإِنعام عليهم ببعثة الرسل وإنزال الكتب {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرون النعم بل يجحدون ويكفرون.



      {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أي ما تكون يا محمد في أمرٍ من الأمور، ولا عملٍ من الأعمال {وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} أي وما تقرأ من كتاب الله شيئاً من القرءان {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} أي ولا تعملون أيها الناس من خير أو شر {إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي إلا كنا شاهدين رقباء، نحصي عليكم أعمالكم حين تندفعون وتخوضون فيها.
{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} أي ما يغيب ولا يخفى على الله {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي من وزن هباءة أو نملة صغيرة في سائر الكائنات أو الموجودات {وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي ولا أصغر من الذرة ولا أكبر منها إِلا وهو معلوم لدينا ومسجَّل في اللوح المحفوظ، قال الطبري: والآية خبرٌ منه تعالى أنه لا يخفى عليه أصغر الأشياء وإن خفَّ في الوزن، ولا أكبرها وإن عظم في الوزن، فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضي ربكم، فإنّا محصوها عليكم ومجازوكم بها.



      {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أي انتبهوا أيها الناس واعلموا أن أحباب الله وأولياءه لا خوف عليهم في الآخرة من عذاب الله، ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا، ثم بيّن تعالى هؤلاء الأولياء فقال {الَّذِينَ ءامنوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أي الذين صدّقوا الله ورسوله، وكانوا يتقون ربِّهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فالوليُّ هو المؤمن التقيُّ وفي الحديث (إنَّ لله عباداً ما هم بأنبياءَ ولا شهداءَ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قالوا أخبرنا من هم؟ وما أعمالهم؟ فلعلَّنا نحبُّهم، قال: هم قومٌ تحابّوا في الله، على غير أرحامٍ بيْنهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى منابرَ من نور، لا يخافون إذا خاف الناسُ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ {ألا إنَّ أولياء الله ..} الآية) .
{لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} أي لهم ما يسرهم في الدارين، حيث تبشرهم الملائكة عند الاحتضار برضوان الله ورحمته، وفي الآخرة بجنان النعيم والفوز العظيم كقوله {إن الذين قالوا ربُّنا اللهُ ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكةُ ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أي لا إخلاف لوعده {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي هو الفوز الذي لا فوز وراءه، والظفر بالمقصود الذي لا يُضاهى.



      {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ } أي لا يحزنك ولا يؤلمك يا محمد تكذيبهم لك وقولهم: لستَ نبياً مرسلاً، ثم ابتدأ تعالى فقال {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} أي القوة الكاملة، والغلبة الشاملة، لله وحده، فهو ناصرك ومانعك ومعينك، وهو المنفرد بالعزّة يمنحها أولياءه، ويمنعها أعداءه {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأقوالهم، العليم بأعمالهم .
{أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} أي الجميع له سبحانه عبيداً وملكاً وخلقاً {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} أي وما يتبع هؤلاء المشركون الذين يعبدون غير الله آلهة على الحقيقة، بل يظنون أنها تشفع أو تنفع، وهي لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} أي ما يتبعون إلا ظناً باطلاً {وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} أي يَحْدسون ويكذبون، يظنون الأوهام حقائق {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} تنبيهٌ على القدرة الكاملة والمعنى من دلائل قدرته الدالة على وحدانيته، أن جعل لكم أيها الناس الليل راحةً لأبدانكم تستريحون فيه من التعب والنصب في طلب المعاش {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي وجعل النهار مضيئاً تبصرون فيه الأشياء لتهتدوا إلى حوائجكم ومكاسبكم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي لعلامات ودلالات على وحدانيَّة الله، لقوم يسمعون سمع اعتبار.



      ثم نبّه تعالى على ضلال اليهود والنصارى والمشركين فقال {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} أي نسب اليهود والنصارى لله ولداً فقالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، كما قال كفار مكة: الملائكة بناتُ الله {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} أي تنزَّه الله وتقدّس عما نسبوا إليه فإنه المستغني عن جميع الخلق، فإن اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه، والله تعالى غير محتاج إلى شيء، فالولد منتفٍ عنه {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي الجميع خلقه وملكه {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} أي ما عندكم من حجة بهذا القول {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أتفترون على الله وتنسبون إليه الشريك والولد؟ وهو توبيخ وتقريع على جهلهم.
{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} أي كل من كذب على الله لا يفوز ولا ينجح {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} أي متاعٌ قليل في الدنيا يتمتعون به مدة حياتهم {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي ثم معادهم ورجوعهم إلينا للجزاء والحساب {ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} أي ثم في الآخرة نذيقهم العذاب الموجع الأليم بسبب كفرهم وكذبهم على الله.


      {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ(71)فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(72)فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ(73)}

      {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} أي اقرأ يا محمد على المشركين من أهل مكة خبر أخيك نوحٍ مع قومه المكذبين {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ} أي حين قال لقومه الجاحدين المعاندين يا قوم إِن كان عظُم وشقَّ عليكم {مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ} أي طولُ مقامي ولبثي فيكم، وتخويفي إِياكم بآيات ربكم، وعزمتم على قتلي وطردي {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} أي على الله وحده اعتمدت، وبه وثقت فلا أبالي بكم {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ} أي فاعزموا أمركم وادعوا شركاءكم، ودبّروا ما تريدون لمكيدتي {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي لا يكن أمركم في شأني مستوراً بل مكشوفاً مشهوراً، {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِي} أي أَنْفذوا ما تريدون في أمري ولا تؤخروني ساعة واحدة، قال أبو السعود: وإِنما خاطبهم بذلك إِظهاراً لعدم المبالاة، وثقةً بالله وبوعده من عصمته وكلاءته.
{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أي فإِن أعرضتم عن نصيحتي وتذكيري فليس لأني طلبت منكم أجراً حتى تمتنعوا، بل لشقاوتكم وضلالكم {إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ} أي ما أطلب ثواباً أو جزاءً على تبليغ الرسالة إِلا من الله، وما نصحتكم إِلا لوجه الله لا لغرضٍ من أغراض الدنيا {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي من الموحدين لله تعالى {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} أي فأصروا واستمروا على تكذيب نوح فنجيناه ومن معه من المؤمنين في السفينة {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ} أي جعلنا من معه من المؤمنين سكان الأرض وخلفاً ممن غرق {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي أغرقنا المكذبين بالطوفان {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} أي انظر يا محمد كيف كان نهاية المكذبين لرسلهم؟ والغرض: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتحذير لكفار مكة أن يحل بهم ما حلَّ بالسابقين.



      {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} أي أرسلنا من بعد نوح رسلاً إِلى قومهم يعني هوداً وصالحاً ولوطاً وإِبراهيم وشعيباً {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالمعجزات الواضحات {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي ما كانوا ليصدقوا بما جاءتهم به الرسل، ولم يزجرهم عقاب السابقين {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} أي كذلك نختم على قلوب المجاوزين الحدَّ في الكفر والتكذيب والعناد.


      {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ(75)فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ(76)قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ(77)قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ(78)}

      {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِ} أي بعثنا من بعد أولئك الرسل والأمم موسى وهارون إِلى فرعون وأشراف قومه {بِآيَاتِنَا} أي بالبراهين والمعجزات الباهرة، وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الأعراف {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} أي تكبروا عن الإِيمان بها وكانوا مفسدين، تعوّدوا الإِجرام وارتكاب الذنوب العظام {فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} أي فلما وضح لهم الحق الذي جاءهم به موسى من اليد والعصا قالوا لفرط عتوهم وعنادهم: هذا سحرٌ ظاهرٌ بيِّن أراد به موسى أن يسحرنا .
{قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أتقولون عن هذا الحق إِنه سحرٌ؟ ثم أنكر عليهم أيضاً باستفهام آخر {أَسِحْرٌ هَذَا} أي أسحرٌ هذا الذي جئتكم به؟ {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} أي والحال أنه لا يفوز ولا ينجح الساحرون {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} أي أجئتنا لتصرفنا وتلوينا عن دين الآباء والأجداد؟ {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ} أي يكون لك ولأخيك هارون العظمة والملك والسلطان في أرض مصر {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي ولسنا بمصدقين لكما فيما جئتما به.



      {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} أي ائتوني بكل ساحر ماهر، عليمٍ بفنون السحر {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} في الكلام محذوف تقديره فأتوه بالسحرة فلما جاؤوا قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون من حبالكم وعصيكم.
{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} أي ما جئتم به الآن هو السحرُ لا ما اتهمتوني به {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} أي سيمحقه وسيذهب به ويظهر بطلانه للناس {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} أي لا يصلح عمل من سعى بالفساد {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي يثبت الله الحق ويقوّيه بحججه وبراهينه {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} أي ولو كره ذلك الفجرة الكافرون.


      {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ(83)وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ(84)فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(85)وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(86)وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ(87)}

      {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} أي فما آمن مع موسى ولا دخل في دينه، مع مشاهدة تلك الآيات الباهرة إِلا نفرٌ قليلٌ من أولاد بني إِسرائيل، قال مجاهد: هم أولاد الذين أُرسل إِليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} أي على تخوف وحذر من فرعون وملأه أن يعذبهم ويصرفهم عن دينهم { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ} أي عاتٍ متكبر مفسد في الأرض {وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ} أي المتجاوزين الحدَّ بادعاء الربوبية.
{وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} أي قال لقومه لما رأى تخوف المؤمنين من فرعون يا قوم إِن كنتم صدقتم بالله وبآياته {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} أي على الله وحده اعتمدوا فإِنه يكفيكم كل شرٍّ وضُرٍّ {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} أي إِن كنتم مستسلمين لحكم الله منقادين لشرعه {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} أي أجابوا قائلين: على ربنا اعتمدنا وبه وثقنا {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي لا تسلّطهم علينا حتى يعذبونا ويفتتنوا بنا فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي خلِّصنا وأنقذنا بفضلك وإِنعامك من كيد فرعون وأنصاره الجاحدين .
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} أي اتخذا لهم بيوتاً للصلاة والعبادة {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي اجعلوها مصلّى تصلون فيها عند الخوف، قال ابن عباس: كانوا خائفين فأُمروا أن يصلّوا في بيوتهم {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي أدوا الصلاة المفروضة في أوقاتها، بشروطها وأركانها على الوجه الأكمل {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي بشّر يا موسى أتباعك المؤمنين بالنصر والغلبة على عدوهم.



      {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي قال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم، زينةً من متاع الدنيا وأثاثها، وأنواعاً كثيرة من المال {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} اللام لامُ العاقبة أي آتيتهم تلك الأموال الكثيرة لتكون عاقبة أمرهم إِضلال الناس عن دينك، ومنعهم عن طاعتك وتوحيدك {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} دعاءٌ عليهم أي أهلكْ أموالهم يا ألله وبدِّدْها {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي قسِّ قلوبهم واطبع عليها حتى لا تنشرح للإِيمان، قال ابن عباس: أي امنعهم عن الإِيمان {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ} دعاءٌ عليهم بلفظ النفي أي اللهمَّ فلا يؤمنوا حتى يذوقوا العذاب المؤلم ويوقنوا به حيث لا ينفعهم ذلك، وإِنما دعا عليهم موسى لطغيانهم وشدة ضلالهم، وقد علم بطريق الوحي أنهم لن يؤمنوا فدعا عليهم، قال ابن عباس: كان موسى يدعو وهارون يؤمّن فنسبت الدعوة إِليهما.
{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} أي قال تعالى قد استجبتُ دعوتكما على فرعون وأشراف قومه {فَاسْتَقِيمَا} أي اثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة إِلى الله وإِلزام الحجة {وَلاَ تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أي لا تسلكا سبيل الجهلة في الاستعجال أو عدم الاطمئنان بوعد الله تعالى، قال الطبري: رُوي أنه مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة ثم أغرق الله فرعون.


      {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90)آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91)فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ(92)وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(93)}

      {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} أي قطعنا وعدَّينا ببني إِسرائيل البحر "بحر السويس" حتى جاوزوه {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} أي لحقهم فرعونُ مع جنوده ظلماً وعدواناً وطلباً للاستعلاء بغير حق {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} أي حتى إِذا أحاط به الغرق وأيقن بالهلاك {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} أي قال عندئذٍ أقررتُ وصدقتُ بأنه لا إِله إِلا اللهُ ربُّ العالمين، الذي آمنت وأقرت به بنو إِسرائيل {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} تأكيدٌ لدعوى الإِيمان أي وأنا ممَّن أسلم نفسه لله، وأخلص في إِيمانه، قال ابن عباس: جعل جبريل عليه السلام في فم فرعون الطين مخافة أن تدركه الرحمة .
{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أي آلآن تؤمن حين يئست من الحياة، وقد عصيت الله قبل نزول نقمته بك، وكنتَ من الغالين في الضلال والإِضلال والصدِّ عن دين الله؟ {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي فاليوم نخرجك من البحر بجسدك الذي لا روح فيه {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} أي لتكون عبرةً لمن بعدك من الناس، ومن الجبابرة والفراعنة، حتى لا يطغوا مثل طغيانك، قال ابن عباس: إِن بعض بني إِسرائيل شكّوا في موت فرعون، فأمر الله البحر أن يلقيه بجسده سوياً بلا روح ليتحققوا موته وهلاكه {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} أي معرضون عن تأمل آياتنا لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها .
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أي أنزلنا وأسكنا بني إِسرائيل بعد إِهلاك أعدائهم منزلاً صالحاً مرضياً {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي اللذائذ الطيبة النافعة {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي فما اختلفوا في أمر الدين إلا من بعد ما جاءهم العلم وهو التوراة التي فيها حكم الله، وهذا ذمٌ لهم لأن اختلافهم كان بسبب الدين، والدينُ يجمع ولا يفرّق، ويوحّد ولا يشتت، وقال الطبري: كانوا قبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم مجمعين على نبوته، والإِقرار بمبعثه، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم، وآمن البعض، فذلك اختلافهم.

تأكيد صحة القرءان وصدق النبوة


      {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} هذا على سبيل الفرض والتقدير: أي إِن فرض أنك شككت فاسأل، قال ابن عباس: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل، وقال الزمخشري: هذا على الفرض والتمثيل كأنه قيل: فإِن وقع شكٌ مثلاً، وخيَّل لك الشيطان خيالاً تقديراً فسل علماء أهل الكتاب، وفرقٌ عظيم بين قوله {وإِنهم لفي شك منه مريب} بإِثبات الشك على سبيل التأكد والتحقيق وبين قوله{فإِن كنت في شك} بمعنى الفرض والتمثيل وقال بعضهم: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} أي اسأل أهل الكتاب الذين يعرفون التوراة والإِنجيل، فإِن ذلك محقَّق عندهم كما قصصنا عليك، والغرضُ دفع الشك عن قصص القرءان .
{لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي جاءك يا محمد البيانُ الحق، والخبر الصادق، الذي لا يعتريه شك {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} أي فلا تكن من الشاكين المرتابين {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} أي لا تكذّبْ بشيءٍ من آيات الله {فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي فتصبح ممن خسر دنياه وآخرته، قال البيضاوي: وهذا من باب التهييج والتثبيت وقطع أطماع المشركين عنه، وقال القرطبي: الخطابُ في هاتين الآيتين للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره.
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} أي وجبت عليكم كلمة العذاب بإِرادة الله الأزلية {وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} أي لا يصدقون ولا يؤمنون أبداً ولو جاءتهم البراهين والمعجزات {حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} أي فحينئذٍ يؤمنون كما آمن فرعون لكن لا ينفعهم الإيمان.


      {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامنوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(98)وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(99)وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ(100) قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ(101)فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ(102)ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامنوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ(103) }

      {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} أي هلاّ كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها، تابتْ عن الكفر وأخلصت الإِيمان عند معاينة العذاب فنفعها إِيمانها في ذلك الوقت {إِلا قَوْمَ يُونُسَ} أي غير قوم يونس {لَمَّا ءامنوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لما تابوا عن الكفر وآمنوا بالله رفعنا عنهم العذاب المخزي المهين في الحياة الدنيا {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي أخرناهم إِلى انتهاء آجالهم، قال قتادة: روي أن يونس أنذرهم بالعذاب ثم خرج من بين أظهرهم، فلما فقدوا نبيَّهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المُسُوح، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم، والتوبة والندم على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب .
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} أي لو أراد الله لآمن الناس جميعاً، ولكنْ لم يشأ ذلك لكونه مخالفاً للحكمة، فإِنه تعالى يريد من عباده إِيمان الاختيار، لا إِيمان الإِكراه والاضطرار {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}؟ أي أفأنت يا محمد تُكره الناس على الإِيمان، وتضطرهم إِلى الدخول في دينك؟ ليس ذلك إِليك، والآية تسليةٌ له صلى الله عليه وسلم وترويحٌ لقلبه مما كان يحرص عليه من إِيمانهم، قال ابن عباس: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حريصاً على إِيمان جميع الناس، فأخبره تعالى أنه لا يؤمن إِلا من سبقت له السعادة في الذّكر الأول، ولا يضلُّ إِلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي ما كان لأحدٍ أن يؤمن إِلا بإِرادته تعالى وتوفيقه {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} أي ويجعل العذاب على الذين لا يتدبرون آيات الله، ولا يستعملون عقولهم فيما ينفع.


      {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(104)وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(105)وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ(106)وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(107)}

      {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك إِن كنتم في شك من حقيقة ديني وصحته {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي فلا أعبد ما تعبدون من الأوثان والأصنام التي لا تنفع ولا تضر {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} أي ولكني أعبد الله الذي يتوفاكم، وبيده محياكم ومماتكم، قال الطبري: وهذا تعريضٌ ولحنٌ من الكلام لطيف، وكأنه يقول: لا ينبغي لكم أن تشكّوا في ديني، وإِنما ينبغي أن تشكّوا في عبادة الأصنام التي لا تعقل ولا تضر ولا تنفع، فأما إِلهي الذي أعبده فهو الذي يقبض الخلق وينفع ويضر {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي وأنا مأمور بأن أكون مؤمناً موحّداً لله لا أشرك معه غيره .
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} أي وأمرتُ بالاستقامة في الدين، على الحنيفية السمحة ملةِ إِبراهيم {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي ولا تكوننَّ ممن يشرك في عبادة ربه {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} تأكيدٌ للنهي المذكور أي ولا تعبدْ غير الله ممّا لا ينفع ولا يضر كالآلهة والأصنام {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} أي فإِن عبدتَ تلك الآلهة المزعومة كنت ممن ظلم نفسه لأنك عرضتها لعذاب الله، والخطابُ هنا للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره كما تقدم .
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ} أي وإِن أراد الله إِصابتك بضُرّ فلا دافع له إِلا هو وحده {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} أي وإِن أراد إِصابتك بنعمة أو رخاء فلا يمنعه عنك مانع {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي يصيب بهذا الفضل والإِحسان من شاء من العباد {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي هو سبحانه الغفور لذنوب العباد، الرحيم بأهل الرشاد.



      {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} أي جاءكم القرءان العظيم المشتمل على محاسن الأحكام {فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي من اهتدى بالإِيمان فمنفعة اهتدائه لها خاصة {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي ومن ضلَّ بالكفر والإِعراض فوبال الضلال مقصور عليها {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي ولستُ بحفيظ أحفظ عليكم أعمالكم إِنما أنا بشيرٌ ونذير.
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} أي اتّبعْ يا محمد في جميع شؤونك ما يوحيه إِليك ربك {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} أي اصبر على ما يعتريك من مشاقّ التبليغ حتى يقضي الله بينك وبينهم {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أي هو سبحانه خير من يفصل في الحكومة، والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيدٌ للمشركين.

إرسال تعليق