adsens

[احاديث نبوية ][horizontal][recent][5]

إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً عبده ورسوله، نحمدك يا الله فأنت مستحق الحمد

أنت الحميد فكل حمدٍ واقع *** أو كان مفروضاً على الأزمان

لك أهله سبحانه وبحمده *** كل المحامد وصف ذي الإحسان

فله المحامد والمدائح كلها *** بخواطري وجوارحي ولساني

وله المحامد ربنا حمدا كما *** يرضيك لا يفنى على الأزمان

وعلى رسولك أفضل الصلوات *** والتسليم منك وأكمل الرضوان

صلى الإله على النبي محمد *** ما ناح قمرِيٌ على الأغصان

وعلى جميع بناته ونسائه *** وعلى جميع الصَّحب والإخوان

وعلى صحابته جميعًا والأُلَى *** تبعوهم من بعد بالإحسان

أما بعد:

فإننا في حاجة ماسة وشديدة لتذكر الدار الآخرة يوم الحسرة ويوم الندامة ويوم الوقوف بين يدي الواحد الأحد في عصر طغت فيه الماديات والشهوات وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات. قست القلوب وتحجرت العيون وهُجر كتاب علام الغيوب، بل قُرئ والقلوب لاهية ساهية في لجج الدنيا وأوديتها سابحة.

زينا جدران بيوتنا بآيات القرآن ولم نزين قلوبنا وحياتنا به، يقرأه بعضنا على الأموات ثم لا يحكمونه في الأحياء. غفلنا وهذه مصيبة والمصيبة الأدهى والأمَّر أننا لا نشعر أننا غفلنا، هبت رياح المعصية فأطفأت شموع الخشية من قلوبنا وطال علينا الأمد فقست قلوبنا. لهذا كله كان لابد من الوقوف على بعض مشاهد الحسرة في الآخرة عسى أن ننتهي عن الذنوب وتلين منا القلوب وتستيقظ وتخشع وتذل النفوس وننتبه من الغفلة فأصل المصائب وارتكاب الذنوب وفعل المعايب الغفلة عن الآخرة، -فذكر اليوم الآخر يُطهر القلوب من الحسد والفرقة والاختلاف- وذكر الآخرة يهدد الظَلمة ليكفوا ويرتعدوا ويُعزي المظلومين ليسكنوا فكلً يأخذ حقه لا محالة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء فلا ظلم ولا هضم.

ذكر الآخرة يمسح على قلوب المستضعفين والمضطهدين والمظلومين مسحة يقين تسكن معه القلوب لأنهم يتطلعون لما أعده الله للصابرين من نعيم ينسى معه كل خير وبلاء وسوء وعناء، ويهون عليهم ويعزيهم ما أعده الله للظالمين من بؤس يُنسى معه كل هناء.

فهيا معي يا عباد الله اليوم إلى مشاهد الحسرة أسأل الله ألا نكون من أهل الحسرة علَّ ذلك تصلح به القلوب وتتجه إلى علام الغيوب وتنقاد الجوارح إلى العمل الصالح. قال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم 39].

إنه يوم الحسرة... وما أدراك ما الحسرة؟ أرى الأقوام في لهو مقيم وقد غفلوا عن الأمر العظيم تناسوا يوم محشرهم جميعا و يوم الفصل ما بين الخصوم تناسوا يوم تدنو الشمس منهم كقدر الميل بالخطب الجسيم فذاك اليوم يوم الهول حقا به يعلو المشيب ذرا الفطيم فطوبى للذي قد جاء يوما بطاعات و بالقلب السليم و تبا للذي أمضى الليالي بعصيان وذا القلب السقيم إنه إنذار وإخبار وتخويف وترهيب بيوم الحسرة حين يُقضى الأمر، إنه يوم يُجمع الأولون والآخرون في موقف واحد يسألون عن أعمالهم فمن آمن واتبع وصدق سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً ومن تمرد وعصى شقي شقاء لا يسعد بعده أبداً وخسر نفسه وأهله وتحسر وندم ندامة تتقطع منها القلوب وتتصدع منها الأفئدة أسفاً وأي حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته واستحقاق سخطه وناره إنها حسرة لأنه لم يستعد للميعاد.

ولم يستكثر من الزاد وتحسر لأنه لا إلى دنياه راجع ولا في حسناته زائد. فيا للندم والحسرة حيث لا ينفع ندم ولا حسرة وأنذرهم يوم الحسرة يوم يجاء بالموت كما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري: «كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيُقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، ثم يُقال يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم قال: فيُؤمر به فيذبح، ثم يُقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت» ثم تلا قوله تعالى:{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39].

آه ساعتها من تأوهٍ لا ينفع ومن دموعٍ لا تشفع ومن صراخ لا يُسمع... إنها حسرة بل حسرات أنباء مهولات ندمات وتأسفات ورد ذكرها في غير ما آية من الآيات تخبر عن معرضين عن رب الأرض والسماوات ولاهين ولاهيات عن يوم الحسرات.

إنها حسرات على: الحسرة على عدم الإخلاص: الحسرة على أعمال صالحة شابتها الشوائب وكدرتها مبطلات الأعمال من رياء وعجب ومنَّة فضاعت وصارت هباءً منثوراً في وقت الإنسان فيه أشد ما يكون إلى حسنة واحدة. قال تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الزمر:47- 48] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد كما في مسند الإمام أحمد: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: ما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء».

يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: «اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء».

الحسرة على عدم الإتباع:

الحسرة على أعمال محدثة وعبادات لم يأذن اللهُ بها ولم يُتبع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحسب أهلها أنهم يُحسنون صنعا لكنها تضيع في وقت الحاجة الماسة إليها فهم الأخسرون أعمالا وساءوا أحوالا. {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم 18].

{أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور 39].

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} [الغاشية:1-3].

يا حسرة من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ثم يُحجز عنه ويناديهم فتقول الملائكة إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فيقول لهم: سحقاً سحقا. {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان:23].

{حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31].

الحسرة على التفريط في طاعة الله:

عندما يدخل العبد المُسيء المسرف على نفسه القبر فيُضرب بمطرقة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابا ثم يرى مقعده في الجنة ويُقال: هذا مكانك لو أطعت الله فيتحسر ويندم يوم لا ينفع ندم لأنه لا إلى دنياه راجع ولا في حسناته زائد ثم يصرخ ويقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99-100].

الحسرة على التفريط في طاعة الله وتصرمُّ وانقضاء العمر القصير في اللهث وراء الدنيا حلالها وحرامها والاغترار بزيفها مع نسيان الآخرة وأهوالها {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:56-58].

فالله عزَّ وجل يحذرنا حتى لا نقف هذا الموقف ونندم يوم لا ينفع ندم وقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9-11].

الحسرة على التفريط في النفس والأهل:

الحسرة على التفريط في النفس والأهل أن تقيهم من عذاب جهنم يوم تفقدهم وتخسرهم مع نفسك بعدما فتنت بهم ذلك هو الخزي والخسار، والحسرة والنار.

عجباً لمن يغلق على أهله أولاده المنافذ والأبواب مخافة عليهم من برد الشتاء ثم بعد ذلك هو يجعلهم طُعمة للنار إذ لا يأمرهم بمعروف ولا ينهاهم عن منكر ونسي هذا المسكين قول رب العالمين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ونسي هذا المسكين قول الرسول الأمين: «كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته». وكأن حال هذا الرجل يقول: بعضي على بعضي يجرد سيفه والهم مني نحو صدري يُرسل النار توقد في خيام عشيرتي وأنا الذي يا للمصيبة أشعل {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15].

حسرة جلساء أهل السوء:

حسرة جلساء أهل السوء يوم انساقوا معهم يقودونهم إلى الرذيلة ويصدونهم عن الفضيلة إنها لحسرة عظيمة في يوم الحسرة يعبرون عنها بعضِّ الأيدي يوم لا ينفع عض الأيدي كما قال ربي: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27-29] فإن كنت ممن ابتلوا بصحبة من لا تقربك إلى الله صحبتهم فتبرأ منهم الآن قبل أن يتبرءوا منك لكن متى وأين؟ أما الزمان فمعلوم وأما المكان ففي النار: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166-167] فهذه حسرة الأتباع المقلدين لأصحاب السوء ولعلماء الضلالة فالنجاة والفوز وإتباع النبي صلى الله عليه وسلم فالسنة كسفينة نوح من ركبها فقد نجا، ومن تخلف عنها فقد هلك فليست الحجة في قول فلان وفلان؛ إنما الحجة في قول النبي العدنان إنها حسرة الأتباع المقلدين.

حسرات متفرقة:

أيُ حسرة أكبر على امرئ أن يرى عبداً كان الله ملكه إياه في الدنيا يرى في نفسه أنه خيرٌ من هذا العبد فإذا هذا العبد أفضل منه يوم القيامة.

أيُ حسرة أكبر على امرئ أن يرى عبداً مكفوف البصر في الدنيا قد فتح الله بصره يوم القيامة وقد عمي هو إن تلك الحسرة لعظيمة عظيمة.

أيُ حسرة أكبر من امرئ علم علماً ثم ضيعه ولم يعمل به فشقي به وعمل به من تعلمه منه فنُجي به.

أيُ حسرة أعظم من حسرات المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم يوم تبلى السرائر وينكشف المخفي في الضمائر ويُعرضون لا تخفى على الله منهم خافية ثم يكون المأوى الدرك الأسفل من النار ثم لا يجدون لهم نصيراً.

الحسرة على ضياع الحسنات، الحسرة على أعمالٍ صالحة كانت الأمل بعد الله ولكنها ذهبت في ذلك اليوم العصيب إلى من تعديت حدود الله منهم فظلمتهم في مالٍ أو في دمٍ أو في عرضٍ فكنت مفلساً حقا وقد خاب من حمل ظلما، فيأخذ هذا من حسناتك وهذا من حسناتك وهذا من حسناتك حتى تفنى حسناتك، ولم تقضي ما عليك فيطرح عليك من سيئات من ظلمتهم، ثم تطرح في النار أجارك الله من النار وجنبك سخط الجبار بفعل ما يرضي الواحد القهار.

ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته حتى إذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم ثم طرح في النار».

فأنا أذكر نفسي وهذا الصنف بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت له مظلمة لأخيه فيأتيه».

بل هناك نوع من أنواع القصاص يكون بين المؤمنين ويكون عند القنطرة، إنها القنطرة التي لا يعلم عنها الكثير من الناس شيئاً فهي القنطرة التي يقضي فيها المؤمنون من بعضهم البعض فبعد مرورك من على الصراط تظن أن الأمر قد انتهى عند ذلك ولم يبقى سوى دخولك الجنة وفجأة تجد نفسك على قنطرة المظالم التي قال عنها النبي، كما عند البخاري من حديث أبي سعيد الخدري: «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا نُقوا وهُذبوا أُذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل منه بمسكنه كان له في الدنيا».

فالمظالم على القنطرة فهي بين المؤمنين الذين يدخلون الجنة فيقتص كل واحد منهم من الآخر بقدر مظلمته فيزداد ويرتفع المظلوم درجة في الجنة ويخسر الظالم درجة في الجنة ويخسر الظالم درجة في الجنة فيا لها من حسن وإياك إياك ومظالم العباد.

ألم أقل لكم أن الأمر خطير جد خطير، ولا يصلح فيه ولا ينجي منه إلا إصلاح الزاد والبعد عن ظلم العباد....... من كانت عنده مظلمة لأخيه من مال عرض فليأتيه فليتحلل منها.

الحسرة عند مجيء جهنم:

أخرج الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يُؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها». فيا له من مشهد مهيب تتفطر منه القلوب.......فإذا جيء بجهنم لا يبقى مَلَك مُقرب ولا نبي مرسل إلا جثي على ركبتيه وقال يا رب سلم سلم، يقول الحق تبارك وتعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:21-24].

تأمل معي الحسرة الشديدة لكل من فرط في حق الله جل وعلا إذا رأى جهنم فإنه يصرخ ويقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} كلمة يقولها كل من فرط في الصلاة وضيع وكل من عق والديه وكل من ظلم العباد وحارب الله بارتكاب الذنوب والموبقات كلمة تقولها كل من تركت حجابها.

فاتقوا النار أيها الأحبة فإن الله أوقد عليها ألف عام حتى أحمرت وألف عام حتى ابيضت وألف عام حتى اسودت فهي الآن سوداء قاتمة يصل الحجر إلى قعرها بعد سبعين سنة فإن قعرها بعيد وحرها شديد ومقامعها حديد.

حسرات واستغاثة أهل النار:

وتأمل في حال الخلائق وقد قاموا من دواهي القيامة ما قاموا قد شُدت أقدامهم إلى النواصي واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، ينادون من أكنافها ويصيحون في نواحيها وأطرافها..يا مالك قد حق علينا الوعيد يا مالك قد أثقلنا الحديد يا مالك قد نضجت منا الجلود فتقول الزبانية: لا خروج لكم من دار الهوان فاخسأوا فيها ولا تكلمون ولو أخرجتم منها لكنتم إلى ما نُهيتم عنه تعودون، فعند ذلك يقنطون وعلى ما فرطوا في جنب الله يتأسفون ولا ينجيهم الندم ولا يغنيهم الأسف بل يكبون على وجوههم مغلولين، طعامهم نار وشرابهم نار ولباسهم نار ومهادهم نار {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:41].

ويُلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون بالطعام فيُغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يُغني من جوع ويستغيثون بالطعام فيُغاثون بطعام ذي غُصة فيستغيثون بشراب فيُرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم، فإذا دخل الشراب بطونهم قطَّع ما في بطونهم فيقولون: ادعوا خزنة جهنم فيدعون خزنة جهنم: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر:49-50] فيقولون ادعوا مالكاً فيدعون فيقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} [الزخرف:77].

قال الأعمش: أنبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام. فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فيجيبهم: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:106-108] منتهى الحسرة وقصارها وإلي من بعد ذلك سيذهبون إذ قد هانوا على رب العالمين، فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك أخذوا في الزفير والحسرة والويل.

قال محمد بن كعب: "لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله عزَّ وجلَّ في أربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلوا بعدها أبداً. يقولون: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} [غافر:12] فيقول الله تعالى مجيباً لهم: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12].

ثم يقولون: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [إبراهيم:44] فيجيبهم الله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} [إبراهيم:44].

فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] فيجيبهم الله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر:37].

ثم يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106-107] فيجيبهم الله تعالى: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:106-108] فلا يتكلمون بعدها أبداً وذلك غاية شدة العذاب.

قال مالك بن أنس رضي الله عنه قال زيد بن أسلم في قوله تعالى: {سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم:21] قال صبروا مائة سنة ثم جزعوا مائة سنة ثم صبروا مائة سنة ثم قالوا: {سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم:21].

الحسرة الكبري وتحاور أهل الجنة وأهل النار:

فإنه إذا استقر أهل النار في النار يذوقون عذابها ويشربون من أنهار الجنة ويأكلون من ثمارها {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44].

الحسرة الأعظم:

كلام أهل النار لأهل الجنة: وحسرة أعظم حين ينادي أهل النار أهل الجنة {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:51].

اللهم قنا عذاب النار وحر النار وبر النار يا رب العالمين.

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب.

وأصلح اللهم أحوالنا في الأمور كلها، وبلغنا بما يرضيك أمالنا، واختم اللهم بالصالحات أعمالنا وبالسعادة أجالنا، وتوفنا يا رب وأنت راض عنا.

اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، وتفرقناً من كل شر معصوماً.

ربنا لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا طالباً أمراً من أمور الخير إلا سهلته له ويسرته.

اللهم وحِّد كلمة المسلمين، واجمع شملهم، واجعلهم يداً واحدة على من سواهم، وانصر اللهم المسلمين واخذل الكفرة المشركين أعدائك أعداء الدين.